منصور ماجد الذيابي
كمدخل لهذا المقال أود أولا أن أوضح للقارئ الكريم بعض التعريفات المختلفة للثقافة. فهناك تعريفات كثيرة ومن أسباب تعدد هذه التعريفات هو أن الذين يحاولون تعريف الثقافة ينتسبون إلى مجالات مختلفة كالتربية والتعليم والفلسفة، ولكل من هؤلاء اهتمامات خاصة ينظر إلى الثقافة من خلالها. ومن هذه التعريفات وفقا لبعض النقاد والمثقفين أن الثقافة «جملة من العلوم والمعارف والفنون التي يطلب الحذق بها»، في حين يعرفها آخرون بأنها « المعرفة المتصلة بالعلوم الإنسانية التي ترقى بالإنسان وتوسع دائرة معارفه وتميزه بالنظرة الشاملة بحيث ينعكس هذا كله على شخصيته وسلوكه مما يجعل منه إنساناً واسع الأفق مهذبا». وهي أيضا «التراث الحضاري والفكري في جميع جوانبه النظرية والعلمية». وعموما ينبغي علينا نحن القراء ألا نخلط بين العلم والثقافة. فالعلم هو مجموعة الحقائق التي توصل إليها العقل الإنساني في مراحل تفكيره وتجاربه وملاحظاته المتسلسلة والمحررة بالاختبارات المتكررة، أي أن العلم عبارة عن حقائق ثابتة لا تختلف باختلاف الأشخاص ولا تتغير بتغير المصالح. أما الثقافة فإن فيها تنوعا وشمولا وتختلف من بلد إلى آخر، ومن مجتمع إلى مجتمع آخر. فكل مجتمع له مميزات وخصائص تميزه عن المجتمعات الأخرى. ومن هنا يتضح الفرق بين العالم والمثقف. فالعالم هو الشخص الذي يحصر نفسه في مجال تخصصه ولا يهتم بجوانب الثقافة العامة المتعلقة بالإنسان، أما إذا كانت لديه معارف متعددة ومتنوعة إلى جانب تخصصه فإنه يوصف بالوصفين. وأما المثقف فهو الشخص الذي يتميز بمعرفته جوانب الثقافة عامة وليس متخصصاً بعلم من العلوم. كما يعرف بعض النقاد المهتمين بالشأن الثقافي بأن الثقافة هي المعرفة التي تتمرد على التخصص فتحوله من حالة تخصص إلى حالة عموم. وكما ذكرت في مقالات سابقة بعنوان «أهمية الثقافة في حياة الأمم»، وكذلك «التحولات الثقافية وأثرها في سلوك الإنسان»، ونظرا لأهمية الثقافة في حياة الإنسان بشكل عام لذلك أرى أن المشهد الثقافي لكل مجتمع سيحتاج بين حين وآخر إلى تصحيح بعض المسارات التي يتشكل من خلالها مُنتج الفكر الإنساني في مختلف الجوانب الثقافية بما يفوق حاجة الإنسان لجرعات ثقافية زائدة.
لقد تعرضت الثقافة خلال العقود الخمس الماضية لهزات قوية أربكت العقل الإنساني نتيجة للتدفق الهائل فيما ينشره المثقف العربي عبر كل الوسائل المختلفة في مجال المسرح والفن التشكيلي والكتابة عامة ولاسيما كتابة القصة والرواية والقصيدة والمقالة وغير ذلك من الأجناس الأدبية المختلفة. لقد ساهم المثقفون والأدباء في إغراق العقل البشري بدوامة من السيناريوهات والمعلومات ووجهات النظر والرؤى المتضاربة غالبا والمتناقضة في محتواها بين مثقف وآخر، وبالتالي فقد أدى هذا الأمر إلى التباعد الثقافي وجنوح الإنسان نحو العزلة بعد خروج مفاهيم وتقاليد ثقافية من خارطة المشهد الثقافي.
ومثلما يؤدي إغراق الأسواق بكميات هائلة من النفط مثلا إلى تراجع القيمة السوقية لهذه السلعة النفطية، فإن إغراق العقل البشري بحجم كبير من العرض الثقافي عبر الوسائل المختلفة كمؤسسات الإنتاج الفني ودور النشر ووسائل التواصل سوف يؤول حتما مع مرور الزمن إلى تراجع قيمة المادة الثقافية عند المتلقي ولاسيما وأن جزءا كبيراً من المُنتج الثقافي لايزال يتحرك في نطاق العمل المكرر لنماذج إبداعية ولم ينجح في تجاوز خصائص الأعمال الثقافية السابقة بمعنى أنه لم يتمكن من عبور مرحلة المألوف الثقافي ليشكل لنفسه مجالا متفردا يمكن اعتباره رافدا لخلق حالات إبداع ثقافية ترسم أفقا ثقافيا ذو سمات مختلفة.
وفي حين تكون الثقافة عرضة للاندثار أو التشوه بفعل تدفق كميات نشر هائلة عبر وسائل عديدة فتحت الباب على مصراعيه دون أن تتمكن من القيام ببناء سدود ثقافية لأجل تقنين وضبط هذا الكم الهائل من الإنتاج الذي خلق حالة إرباك لعقل الإنسان حيث إن السعة التخزينية للعقل البشري لا يمكنها استيعاب كل هذه الجرعات التي أحدثت مغصا وعسرا في هضم المادة الثقافية.
ومثلما تجتاح السيول المناطق المأهولة وتجرف كل شيء في طريقها فإن المد المعرفي الثقافي أيضا - إن لم يكن تحت السيطرة - سيجتاح ثقافة الأفراد ويعيد تشكيل الأسس التي قامت عليها الثقافة مما قد يجعل ثقافته الأم عرضة للانقراض والتشوه، ذلك أن خصائص ثقافة أي مجتمع قد تتآكل وتتشوه هويتها العامة بفعل التدفق المهول في الإصدارات الثقافية المفعمة بالرؤى والأفكار الغريبة. وباعتبار أن الثقافة أشبه بكائن حي يتنفس ليعيش ويبقى مع الأمة، فإن الأمر هنا يتطلب ترشيد استهلاك واستقبال المادة الثقافية بأسلوب يسمح للمتلقي بهضم المُنتج الثقافي تدريجيا قبل أن يجرف المد الثقافي معايير التفاعل التي لا تتقبل أو تتقبل طرح رؤى ثقافية معينة في مدة زمنية كافية لتذوق أي مُنتج ثقافي جديد قبل وصول دفعات أخرى قد نضطر حينها إلى بلع متغيرات ثقافية كثيرة دون أن نستوعب مدلولاتها ونتعايش مع آثارها على المدى الطويل من حياة الإنسان.
ونحن كمستهلكين للمادة الثقافية، أدبية كانت أو فنية، قد أصبح لدينا فائض في المخزون الثقافي إلى درجة أن وصلنا لمرحلة لم نعد نحتاج فيها إلى وجبات فكرية كاملة الدسم. لقد أدى السباق الثقافي المشابه « لسباق التسلح « إلى إبقائنا رهائن لتلك السباقات إلى الحد الذي أربك العقول وشل حركتها في إيجاد مخرج للعودة إلى مستوى طبيعة التفاعل الانساني مع مستجدات الفكر التي قد تنطوي على مضاعفات جانبية وارتدادات عكسية مؤثرة دون إدراك كامل بما ستؤول إليه عمليات البحث المعرفي غير المؤكدة النتائج من حيث أثرها على الثقافة الأم وإرباك العقل في تعاطيه مع قضايا إنسانية أكثر أهمية.
ان ما يحدث اليوم إنما يفكك وشائج الصلة ويشل قدرة العقل الأمر الذي من شأنه أن يرسم لنا نمطا جديدا معوقا لنشاط العقل في المرور بمراحل متدرجة للوصول إلى مستوى يسمح له بهضم المادة الثقافية تلقائياً دون حدوث مشاكل ناتجة عن حقنه بجرعات زائدة تهدد قدرة العقل في المحافظة على ثقافته وتطويرها بما يتناسب مع أولوياته واحتياجاته.
إنما نريد نحن معشر القراء العمل على تقنين حجم نشر المطبوعات الثقافية عموما لإتاحة الفرصة أمامنا من أجل التقاط الأنفاس قبل تعبئة الأسواق الثقافية مجددا بشحنات أخرى كبيرة من الكتب والإصدارات المختلفة.
ومن يعلم، فقد نشهد في مقبل الأيام من خلال أجهزة هواتفنا الذكية وصول دعوة تتضمن عبارة « حمّل تطبيق الثقافة « كما هو الحال مع تطبيقات الجوال المتزايدة بهدف التسويق التجاري لمنتج تجاري ما لكسب شريحة واسعة من المستفيدين؟