د. جمال الراوي
بعض الآباء، يعاتبون أبناءهم على التبذير والإسراف، وكثيرًا ما تسمعهم يطلبون منهم عدم ترك الأنوار مضيئة في الدار، ويقولون لهم إنّ هذا إسرافٌ؛ فيظنّ الأبناء بأنّه زيادة حرصٍ لا داعي له، لأنّه يُحرمهم من بهجة الأنوار التي تضيء المنزل!!... ليمضي العُمر، فيكتشف الأبناء بأّنّهم أصبحوا في مكان هؤلاء آبائهم، وإذا بهم يكرّرون ما كان يفعله آباؤهم يفعلونه!! وفي ذلك دلالة على أنّ دورة الحياة وتعاقب الأجيال متشابهة، ولا تتغيّر، ولا تنقطع منذ بدء الخليقة.
وجد المستكشفون قطعة أثرية في عهد حمورابي، تعود لآلاف السنين؛ استطاع علماء الآثار كشف رموزها؛ فوجدوها لأبٍ يشكو من إسراف أبنائه وعدم اتباعهم لنصائحه، ويقول فيها بأنّ جيل الأبناء يختلف عن جيل الآباء، ويترحمّ فيها؛ على جيله وجيل من سبقه... وهي وثيقة تؤكد على الحقيقة العظمى، بأنّه لا توجد مدنية ولا حضارة ولا تقدم، فالإنسان هو الإنسان بشكله ورسمه وعواطفه، وهو نفسه، منذ بدء الزمان وحتى نهايته!!... وعندما يشكو الأبناء من زيادة حرص آبائهم، ويتأفّفون من كثرة تعليماتهم وأوامرهم لهم بالتقنين والحرص وعدم الإسراف، ويتضايقون من ملاحقة الآباء لهم، ويضيقون ذرعًا من هذا السيف المُسلّط عليهم؛ لا يدرون بأنّ يومًا ما، سوف يأتي ليكتشف الأبناء بأنّهم أخذوا الدور عن آبائهم، وأصبحوا يفعلون مع أبنائهم، مثلما كان آباؤهم يفعلون معهم!!
ورد في معنى الإسراف بأنّه؛ مجاوزة حدِّ الاعتدال في الأفعال والأقوال والأموال، وفي جميع المرغوبات والمحبوبات، أمَّا التبذير فهو؛ إنفاق المال في غير حقِّه، وصرفه في غير حاجته ومواضعه، والإسراف والتبذير من خصائل الشرِّ، وهو داءٌ عُضال بدأ يفتك بمجتمعات اليوم، وهو تبديدٌ للمال وإضاعته في غير ما ينفع النّاس، وسبب في انهيار الأمم.
من الأخطاء التربويّة لدى الأهل؛ تنشئة أبنائهم على الإسراف والتبذير وتلبية طلباتهم، لأنّهم في مرحلة لا يعرفون قيمة الالتزامات الماديّة التي تقع على عائل أسرهم، ولا يدركون قيمة ما يتم إنفاقه عليهم، ولا يعرفون أنّه عطاءٌ لا ضمان في استمراره وبقائه!!... وقد فاز من عرف كيف يربي أبناءه على الحرص والتقنين وعدم الإسراف والتبذير، قبل أنْ يأتي يومٌ لا يجدون في حوزتهم ما ينفقونه عليهم، وقبل أنْ يأتي يومٌ يقول الابن لأبويه: (هي ليست هي مشكلتي، وضائقتكم الاقتصاديّة لا تعنيني، المهم أنْ توفّروا لي ما أحتاجه وأرغب به!!)، وحينئذٍ سوف يكتشف الآباء بأنّهم ربوّا غولا في بيتهم، لم يعودوا يملكون القدرة في السيطرة عليه، وحينئذٍ لن يتركهم هذا الغول حتى يقضي عليهم!!
هي دورة ثابتة لا تتغيّر، ولا علاقة لها بتاريخٍ أو عصر؛ فما إنْ تذهب عن الابن جهالة الشباب ويكتمل إدراكه وعقله، ويبدأ يرى الحياة على حقيقها، وحينما تنتصب أمامه مسؤولياتها؛ حينها يعرف، وللمرّة الأولى، صعوبة جلب المال، وأنّ الحصول عليه يتطلّب جُهدًا ومشّقّة، وأنْ للأشياء التي يستعملها قيمة؛ ولا يجوز إهدارها أو إنفاقها أو استعمالها إلا في مواضعها، لأّنّها قد تختفي ولا تعود؛ إنْ لم يتم التصّرف بها بحرصٍ وحكمة.