هدى مستور
كلٌ منا يزعم التواضع، ويدعيه، بصورة أو بأخرى، ولكن ما أعنيه من مقالي هو الصورة الحقيقية للتواضع.
فتجرُّد المحرم من اللباس، الذي يتفاوت في جودته ونفاسته بحسب تفاوت رتبه المادية ومستوى معاشه، هو درس عظيم، يعيدنا إلى الحقيقة، الغاية من وجود الإنسان، وحقيقة وجوده؛ إذ كلنا لله جل وعز، وكل ما نتحلى به مؤقت وزائل، لا نملك شيئاً بصورة كاملة تقتضي الدوام، وكمال التصرف؛ فهي ملكية محدودة ومؤقتة، وواهية، وغير آمنة؛ إذ تحتمل التحول، أو أن تُنزع منا في أي وقت.
وكل آفل لا يستحق صرف الحياة لأجله {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} (76) الأنعام.
التجرد من المخيط (هو كل لباس جرت خياطته على قدر الملبوس عليه) درس عميق في إعلان إسقاط أحد الاعتبارات الحسية التي اعتاد الإنسان على التماهي معها، إلى حد إحلالها محل الهوية، والوقوف عند ملامحها كأحد معالم وجوده، سواء كان في المعنى، أو في الاعتراف والاستحقاق، أو حتى كمعيار للتعاطي مع إشكاليات الحياة عند التقييم والمنافسة والسعي والمشاركة.
فحين نتجرد من اللباس نحن نعود إلى جوهرنا الكامن في أعماقنا، إلى ذواتنا الحقيقية، إلى فطرتنا النقية، التي طالما تغافلنا وجودها، وآثرنا الحلول السطحية السريعة التي لا تخرج عن التغطية والإخفاء، أو حتى الاكتفاء بالإلهاء أو الهرب. إذ حين تضع على كتفيك لباس الإحرام تكون قد تركت خلف قلبك أصناف المواهب، وأنواع النعم، والممتلكات، والعلوم والشهادات، والرتب، والنَّسَب، والعلاقات، وأنواع الترفيه والمسليات.. قائمة طويلة من الأشياء التصقت بها، حتى عدت أنت وهي شيئاً واحداً لا ينفصلان، فأنت الأشياء، وكل الأشياء هي أنت! لطالما صارعت وقاتلت كثيرًا لأجلها.
إن إدارة الظهر لكل معايير التفاضل المجتمعية الزائفة كفيلة بأن تضعك أمام حقيقتك المجردة وجهاً لوجه. وهناك حال اللقاء، هل ستعرفها!؟ أم ستطرح عليها بقلق ووجل السؤال الوجودي المحير: من أنا؟!
الطغيان هو الوجه الآخر للأنانية ولعبودية الذات، وهي وعبادة الله - جل وعز - لا تجتمعان في قلب سليم أبداً. فحين يتبنى الإنسان «الضعيف» معتقداً، مبناه على أن وجوده مستقل، وقائم على أنه متصف بالكمال لذاته، خالق لأفعاله، وأن ملكيته للأشياء حقيقية، وأن مكتسباته عائدة إلى مواهبه، ومن ثم له مطلق الحرية في التصرف فيما يملك، إنه الوجه العصري والمتكرر للاستعلاء والغطرسة البشرية {إِنَّ الْإنسان لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} العلق (6-7). وتجئ أفعال الحج وشعائره، بدءاً من الإحرام، المرافق للجهر بالتلبية؛ لتعيده قسراً لرشده ولحقيقته، باطناً وظاهراً، من خلال التجرد الذي يدفع للاعتراف بالضعف، وإعلان العجز، وإظهار الافتقار لله وحده لا شريك له.
وإلى جانب ذلك فهناك صفات تشي بكبر وتعالٍ وتصلب في نفس صاحبها، كالنزوع للجدال، والخصومة، والنقد اللاذع في المناقشات والمحاورات، وقد يلبسها صاحبها لباس النصيحة والغيرة، والأهمية.. لا فرق بين أن يكون موضوع الجدل هو مسألة فقهية، أو قضية نسوية، أو أخرى كالتنظيمات السياسية؛ فكلٌّ يدعي التفرد بالفهم، واحتكار الحقائق، والسبق في اكتشاف الدسائس والمؤامرات!.. وقد يحتد في صورة انفعالية، ويتطور إلى تصاعد التفاعل مع حالات الغضب. وكلها في الأصل مظاهر للكِبر؛ إذ صاحب الحق يستند إلى أحقية الحق، وجدارته، ولا يجد حاجة للجدال، وإشعال الخصومة. وكمال الحج يشترط ترك ذلك كله {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (197) سورة البقرة.
وخلال رحلة الحياة يكثر قطّاع الطرق، سواء من داخل النفس البشرية، أو من جهة خارجية نارية، بإثارة الشكوك والشبهات، أو بتحريك الغرائز وتزيين الشهوات.. فكان رمي الجمرات صورة رمزية، تعبر عن المواجهة الرافضة للانصياع لهذه الجهات، وسواء صح الأثر المنسوب لإبراهيم عليه السلام أم لا فإن مجرد الموافقة على اتباع سنة الرسول صلوات ربي وسلامه عليه إحدى مظاهر تعظيم شعائر الله، ودليل على روح التواضع الحقيقي؛ إذ ما تواضع من اشترط للمتابعة تقديم الرأي واقتناع العقل على ما ثبت في صحيح النقل.
النفس المتعالية لا تفتر ولا تكل من كونها تحوم بالدوران حول نفسها (الأنا الزائفة)، سواء كان بالسعي والبذل لأجلها، أو بإطرائها، وكثرة الثناء عليها، فجاءت مناسك الحج متضمنة طوافًا وسعيًا، ولكن من نوع آخر، إنه دوران حول أول بيت مبارك وُضع للناس لعبادة الله وحده. فسعيكم أيها الناس على اختلاف مشاربكم، وتباعد أقطاركم، وتعدد وجهاتكم، ينبغي أن يجرَّد لله، ويدور حول أمره، في مبدئه ومنتهاه.
أما عن التطرف في إطراء النفس بالقول أو الفعل، واستحسانها، والإعجاب بصنيعها، والثناء على من يزيده الثناء عليهم تعالياً، كوالديه وعشيرته، فقد قرر الله لهذا النوع وصفة ربانية كفيلة بإذابة القشور القاسية التي التفت حول القلب بإحكام.. إنه ذكر الله؛ فهو الذي يسمح بانبثاق النور من القلب؛ فيدرك حينها حدود نفسه {فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أو أَشَدَّ ذِكْرًا} البقرة (200).
كما هي رحلة الحياة المعدودة، يبدؤها طفلٌ نقيٌ بريءٌ، كذلك أيام الحج أيام معدودات، يعود منها الحاج كما بدأها، حين ولدته أمه.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال وأزكاها.