كتب أحدهم سيرته الذاتية وقد تعدى التسعين من عمره، وكان من أجل ما كتبه في سيرته الذاتية؛ ما كتبه عن ذكرياته في سن الطفولة الأولى عندما كان في الخامسة من عمره؛ فالذاكرة تقوى والإحساس بجمالها يبهر ويسعد عند كتابته أو قراءته، وقديماً قال الشيخ الطنطاوي مخالفاً رأي أحمد شوقي في قوله إن الحب هو الحياة؛ فقال (أي الطنطاوي) إن الذكريات هي الحياة: ولشوقي قول شهير في قصيدة جميلة قرأته منذ سنين طويلة ونسيت صيغته شعراً؛ عن العمر وتقادم السنين حيث قال: إن العمر يمضي للتسعين والروح تبقى في العشرين؛ فرحم الله شيخنا الجليل علي الطنطاوي وأمير الشعراء أحمد شوقي؛ وفي بداية النصف الثاني من السبيعينيات الميلادية من القرن الماضي بدأت قصتي مع لاهور: وهي مدينة باكستانية جميلة تغربت فيها لدراسة الطب؛ فبعد أن حصلت على الثانوية العامة قسم علمي من ثانوية اليمامية في حي المربع بالرياض؛ بنسبة نجاح 75 % وهي نسبة (تفشل) هذه الأيام.. إلا أن حامل تلك النسبة حينذاك.. يجد الكليات (الكشخة) ترحب به.. وتأخذه بالأحضان.. وكان سكني مع الأهل في حي الوشام القريب من شارع العصارات (شهرته في الماضي كشهرة شارع التحلية هذه الأيام) من حيث كثرة رواده من الشباب والمراهقين.. الفرق فقط في نوع السيارات لزوم التشخيص والتسكع في الشارع الفاره.. فالسيارات آنذاك كانت فولكس واجن وكورولا ودتسون أما الآن فأقلها وأبيخها ما يباخ.. ما علينا.. وحي الفاخرية بينه وبين سكني في حي الوشام (قطعت) شارع العصارات.. وبه كانت كلية الهندسة.. لذا استجبت لرأي أحدهم بدراسة الهندسة؛ فقمت بتسجيل اسمي فيها ودرست الهندسة لأسبوع أو نحوه.. وفي إحدى المرات وبمحض الصدفة قرأت إعلاناً في الجريدة (الرياض أو الجزيرة) عن وجود ابتعاث لدراسة الطب في النمسا والقاهرة ولاهور.. فأخبرت الوالد رحمه الله؛ فرفض وبشدة.. إلا أنني أصررت إصراراً وألححت إلحاحاً كما قال عادل إمام؛ على الذهاب.. وقمت في اليوم التالي فسحبت ملفي من كلية الهندسة.. لأضع أبي أمام الأمر الواقع (فرج حمزة) كي يوافق.. حينها عدل الوالد عن جلسته؛ والتفت إلي قائلاً: الدراسة في النمسا طويلة وباللغة الألمانية.. أما القاهرة.. صحيح باللغة الإنجليزية.. ولكنها لا تشتهر أو تتميز كشهرة وتميز إسبانيا مثلاً في طب العيون.. وباكستان كانت مستعمرة بريطانية.. ولغتهم الإنجليزية (التي ستدرس بها الطب) قوية.. فإن كنت لابد مسفر فاذهب إلى لاهور.. فرحت كثيراً وقبلت رأسه ويده اليمنى.. وقلت له: سأعود من لاهور بإذن الله طبيباً أريبا يشار له بالبنان؛ أعالج كل علة حار فيها الدختور الرخاوي.. كما جاء في الأغنية الشعبية.. ما علينا.. وفي صباح اليوم التالي ذهبت إلى الجهة المعلنة عن الابتعاث للخارج.. فأعطوني قائمة بطلبات الابتعاث.. وخلال أسبوع انتهيت من كل ما طلبوه مني.. فتمت الموافقة النهائية على ابتعاثي.. وأعطوني خطاباً للملحقية الثقافية في لاهور وخطاب آخر للسفارة الباكستانية في جدة لاستخراج تأشيرة.. وأمر إركاب على الخطوط السعودية.. ودراهم قليلة لزوم الرحلة (بوكت مني) فأخبرت الوالد عما عملته.. ولأنني لم يسبق لي ركوب الطائرة ولم أغادر الرياض إلا لساقي الخرج ومشتله.. استعنت بتوجيهات الوالد وإرشاداته في رحلة طلب العلم.. بدأها الوالد بتعليمات شفوية كيف استعد للسفر وماذا أفعل خطوة بخطوة إلى أن أحصل على التأشيرة من السفارة الباكستانية في جدة.. وورقة (لا أزال أحتفظ بها) فيها الكثير من النصح والإرشادات من أب كهل.. مشفق ومحب لفلذة كبده عركته الحياة بخيرها وشرها.. لإبن مراهق ذاهب للمجهول.. لا يدري ماذا ينتظره في بلاد الغربة.. وهمه الحصول على لقب طالب يدرس في الخارج أو بلاد برا.. مع أن هناك من يتندر قائلاً: إن صفة طالب يدرس في بلاد برا كانت تطلق على من يدرس في أمريكا أو أوروبا أما من يبتعث للدراسة في دول العالم الثالث فهو يدرس (برا وبعيد) ما علينا؛ المهم عندي آنذاك بجانب (طالب يدرس في الخارج) هو ركوب طائرة لأول مرة؛ لن أبكي عند ركوبها كما بكى طلال مداح رحمه الله عندما بدأ في صعود سلمها (غصبن عليه)؟
** **
- د. سلمان بن سعيد