خلال خبرتي في الثلاثين سنة الماضية بوصفي طبيبًا نفسيًّا، منها 21 سنة في الولايات المتحدة الأمريكية، وثماني سنوات في الخليج والسعودية، قابلت الكثير من المرضى ممن يعانون أعراضًا نفسية شديدة، مثل الهلاوس البصرية والسمعية وضلالات. وأجزم بأن نسبة كبيرة من هؤلاء المرضى يعتقدون أنهم ضحية عين أو حسد أو سحر. وهذا ينطبق على المرضى في الغرب أو في الخليج سواء. وقد يستمر هذا الاعتقاد شهورًا أو سنوات قبل أن يصلوا إلى القناعة بأن هذه الأعراض سببها مرض نفسي، مثل الذهان أو شييزوفرينيا، وغيرهما من الأمراض النفسية الشديدة. ولكن في رحلته العلاجية يمر المريض خاصة في منطقتنا بالكثير من المعالجين الشعبيين والراقين الشرعيين، وكثير منهم يمارس المهنة بدون ترخيص بهدف الربح المادي، وأحيانًا قد يمارس بعضهم هذا النوع من الطب التقليدي بحسن نية، وبهدف مساعدة الناس، ولكن المشكلة أن الكثير منهم قليلو التعليم، وليس لديهم دراية بأبسط القواعد الصحية والطبية، بل إنهم يجهلون جهلاً تامًّا أي قواعد للممارسات الآمنة التي تؤهلهم لممارسة العلاج، وفي أحيان كثيرة يتعرض المرضى اليائسون إلى ممارسات عشوائية، مثل الضرب لإخراج الجن والسحر المزعوم. وكم من المرضى يتعرض لمضاعفات من معالِج وضع فيه ثقته؛ لأنه يمارس العلاج بصبغ دينية. ولا يخفى عليكم تأثير ذلك في مجتمعنا المتدين. ويتم وصف أعشاب بدعوى أنها من الطب الشعبي، ويكتشف المريض لاحقًا أنه أُصيب بفشل كلوي بسبب احتواء هذه الوصفات على تركيز عالٍ من الرصاص والزئبق والمعادن الثقيلة التي تسبب تلفًا لكثير من أعضاء الجسم.
وهناك المرضى الذين أُصيبوا بالشلل الرباعي نتيجة علاج آلام الظهر والرقبة، وتشخيص ما أنزل الله به من سلطان، مثل «تنسيم في الرأس» باستخدام وسائل بدائية عشوائية، تشمل الربط والشد للرقبة والظهر بالحبال مؤدية إلى إصابة الحبل الشوكي والتسبب في الشلل الرباعي.
ويشعر كثير من الأطباء النفسيين الذين يحملون في كثير من الأحيان مؤهلات عالية بالإحباط الشديد لثقة المرضى العمياء بممارسي الطب الشعبي، بينما ينظرون إلى الأطباء بعين الريبة والشك بسبب معتقدات شعبية متوارثة خاطئة. وكثير من المرضى النفسيين لا ينشدون العلاج في مستشفى نفسي حتى مرحلة متأخرة؛ لأن العلاج النفسي في مرحلة مبكرة مفتاح لتحسن الكثير من الأعراض بشكل فعال بإذن الله، والعكس صحيح. فيمكن أن يتفاقم المرض مع المدة، ومع كل انتكاسة، ويكون تجاوب المريض للدواء أقل في كل مرة، وقد يتطلب جرعات أكبر من الدواء بعد كل انتكاسة. وهذا مثبت في كثير من الأبحاث العلمية.
وعندما يكون المريض وأهله في حالة يأس فإنهم يتعلقون بقشة، ويلجؤون إلى معتقداتهم التقليدية التي قد يكون بعضها خاطئًا.
وكثير من الأعشاب الموصوفة عن الطب النبوي مفيدة - بإذن الله - ولكن في حالات محددة واستخدامات معينة. وأعطي مثلاً بسيطًا: فاللبس يأتي عندما يعتقد البعض أن العسل علاج لكل شيء؛ لأنه مذكور في القرآن. والواقع هو أن العسل علاج للكثير من الأمراض - بإذن الله - مثل الالتهابات والنزلات المعوية، ولكنه ليس علاجًا للسكر مثلاً، بل العكس؛ فالعسل قد يسبب مضاعفات شديدة لمرضى السكر.
ونشر الوعي بخصوص الأمراض النفسية، وتقنين الطب الشعبي، مهم جدًّا. وهذه المرحلة فعلاً بدأت، بل سُمح للراقين والمعروف عنهم الوعي والنصح الطيب للمرضى، ومَن يعرفون حدود قدراتهم، بدخول المنشآت الصحية.
والعلاج النفسي متوافر وآمن وفعّال بإذن الله. وحكومتنا الرشيدة وفرت المستشفيات النفسية الضخمة في كل منطقة، وتقوم مشكورة بمجهودات جبارة لنشر الوعي.
نسأل الله السلامة والعافية للجميع.
** **
- أحمد محمد الألمعي