أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: اليومُ يومُ الجمعة المبارك الموافق 10 من شهر ذي الحجة:
* عُقدَةُ عالِـمٍ:
قال أبو عبدالرحمن: كان الشيخ (صادق صديق) متعه الله بالصحة والعافية إن كان حياً، ونور الله ضريحه إنْ كان ميتاً، وجمع له بينهما: من العلماءِ الأزهريين الفضلاء، وكان حنفياً أشعرياً، وكان أديباً ذكياً جدلياً، وكانت تربطني بأساتذتي صلة صداقة حميمة، وكنت أسمع من نجواهم أصداء جدلهم من الشيخ صادق؛ ومن هؤلاء العالم المتواضع الجليل (محمد بن عبدالرحمن الداوود)، و(عبدالرحمن السالم) رحمهما الله وجمعنا بهما في دار كرامته، وأخوه الأكبر (عبدالله بن عبدالعزيز السالم) متعه الله بالصحة والعافية، وكان الشيخ صادق يعتمد في جدله أسلوب التنزل في الاستدلال؛ فيقول: افرض كذا!.. أو: افرض أنه كذا!.. وقد أصبح هذا الأسلوب لكنة محببة لدى شيخي ابن داوود رحمه الله تعالى، وكان شيخي صادق معجباً بي غاية الإعجاب إلا أنَّه إذا أحس من نقاشي ذكاء فيه معنى التحدي للأشياخ، والإدلال حسب صلف الشباب فإنَّه يمطرني بأساليب السخرية والتهكم، وقد صارحني في آخر سنوات اللقاء به بتخوفه من غروري بأوشال الثقافة والذكاء، ولعله رأى أن الذين عاشوا الكهولة بغرور وغرارة اليفاع هم الهاملون من رجال الحرفة في الصحافة والإعلام والأدب؛ لأن غرورهم وغرارتهم منعهم من التتلمذ على الكتب والمشايخ؛ فكان نصيب هؤلاء تحسين العبارة وحذلقة الإنشاء وفراغ القالب من ضياء الفكر وزخم العلم والثقافة؛ بل رأيت شيخي (محمد عبدالوهاب البحيري) متعه الله بالصحة والعافية ينعى على ثقافة الأدباء والصحفيين، ويصف كل ثرثرة وفضول بأنها كلام جرائد!!.. وكنت طالباً بمعهد القضاء العالي، وكان هو من أجل علماء الأزهر وأحفلهم بالخلاصة والتصميم والتخوم.. ومر فترات (في مسجد الشميسي) كنت أدرس في الخلوة أو في السطح بصحبة شيخي ابن داوود منهاج السنة لابن تيمية، وشرح المتنبي للبرقوقي، وزاد المعاد لابن قيم الجوزية، وكان يحذرني من ظرف الأدباء ولهوهم ورقتهم وتأوهاتهم، ولقنني رحمه الله تعالى أنَّ الأدبَ تسلية على هامش الحياة، إلا أنَّ التسلي به بعد عزائم الأمور خير من التسليات المهلكة، وغاية الأدب أنْ يفتقَ موهبتي وينظم فكري ويحسن عبارتي، وكانت هذه المرحلة لحظة الانبهار والدهشة والحيرة من حياتي العلمية؛ فأنا منذ الصغر مفطور على طبع الأدباء وتلمسهم للجمال وتصيدهم لحبات القلوب!!.. ثُمَّ اصطدمت بزملائي ومشايخي بالمعهد العلمي الذي نجد في كل دقيقة من دقائق دروسه حضوراً لهيبة ورزانة وعم وجدية الشيخ الإمام (محمد بن إبراهيم) رحمه الله تعالى، وعوَّض المسلمين بفقده خيراً، أعجز الخلق بعده، وكنت أعرف (ابن حزم) أديباً فحسب، وعلمت الجانب الرخو من فكره وهو طوق الحمامة، وكان مشايخي يطرقون رأسي بسياط أزهرية خُمِّرت لجلود الأدباء والظرفاء!!.. وكان الحديث العادي لشيخي (صادق صديق) من أفخر الأساليب الجدلية العلمية!!.. والصغير يتقن المحاكاة بلا ريب؛ فاستحكمت عندي من تلك اللحظة عقدة (عالم)، وكان مدلول عالم وشرطها هو عقدتي التي لم تنحل حتى هذا اليوم.
** معادلاتٌ في خرائِطِ الأطْلَسِ:
قال أبو عبدالرحمن: على هامش الخريطة شاعِرُ الْـمَنْفَى في هذا الحوار:
يا شاعر الهروبْ.
لهفي عليكْ.
من القمرْ.
أخشى عليكْ.
من الحولْ.
وعين (بيجن) عوفيت من الحولْ.
وتخزر القطيعْ.
ممن يُظن أنَّهم عربْ.
يا شاعر القمرْ.
كم قبلة تشتارها أو تعصرُ،
وكم سعيدة على مغناك تعبرُ؟!
قيثارك الطروبْ.
غيبوبة سكرى تفجر الأوارْ.
أو يقطرُ.
في لحنها الرضاب والسعارْ.
يا شاعِرَ المنفى وغربة الطفولةِ.
يا شاعر الهروب والنغم المحايدِ.
يا شاعر المساءْ.
والليل والقمرْ.
يا راهب الزهور والجداولِ.
بوركت والشعر المدللِ.
كأنه كأس الظريفْ.
يذوب فيه الجيل والزمان والمصيرْ.
وحزن أكتوبر وأيلول المريرْ.
كأنه ساح النديمْ.
لا تعرف الهموم والمتاعبا.
يا شاعر القمرْ.
يلفك المساءْ.
صديق قطاع الطريقْ.
وتسكب الرحيق في الخميلةِ.
لحناً يذوب في السرابْ.
كأنه هدير لجة عميقةٍ.
وتغرق الألحان في غلالة الغروبْ.
وأمتي مضاعةٌ.
تهش للحداءْ.
وأمتي مشروخة الضلوعْ.
وغابة الزيتون في (يافا) وفي الجليلْ.
تدغدغ اللحن الكبيرْ.
والمزهر الحاكي تلعثمتْ.
ألحانُه.
من بين ألف عازفٍ.
وألف هارب ظريفْ.
وكلهم يدق قشر بيضة طريةٍ.
وكلهم رسول لحن لم يتم.
يظل لحناً لم يتمْ.
وأروع المهازلِ.
أن تذبح المواهبُ.
قربان نجمة المساءْ.
يا شاعر الهروب لا مكان في الأفياءِ والظلالْ.
للاجئ غريبْ.
يحن للعش السليبْ.
كبيرة كبيرةٌ.
يا شاعر الهروبْ.
أعباء أمتيْ.
لكنَّ هول التضحيةْ.
يضني بألف دربْ.
وعر وألف ردبْ.
وألف صدع معه ألف رأبْ.
وقد نسير الخيزلي.
وقد نسير الهيدبا.
وقد نسيل من صببْ.
وقد نخف للخببْ.
لا بد من تأرجح الصعودْ.
يا شاعر اللحن الصغيرْ.
هل أنت إلا سندباد ألف ليلة وليلةٍ.
يعانق السعلاة أو يطل في المغارةِ.
ليغرق السمار في عجائب الكهوف والبحارْ.
البرهة البلهاء يا حلم الجذورْ.
بالنسغ والبذورْ.
تحجرتْ.
تجهمتْ.
تخثرت إلى عصورْ.
البرهة البلهاء لحن لم يتمْ.
يا شاعر المنفى وغربة الطفولةِ.
والطفل يهفو للنعاس كلما حركتهُ.
والشعر نسغ الاخضرارْ.
ما ظل يجلب المتاعبا.
والشعر كانتفاضة النسورْ.
ما ظل نهر الشرق مثل أجنحة النعامْ.
والشعر ناقوس الخطرْ.
ما ظل جيل العابثينْ.
الهاربين عن جحيم الواقعِ.
القابعين في كهوف السندبادْ.
قال أبو عبدالرحمن : للحديث بقية، وإلى لقاءٍ قريب إنْ شاء الله تعالى. والله المستعان.