د. جمال الراوي
بعض الآباء يتفاخرون بأبنائهم؛ الذين، دائمًا، محور حديثهم، وعيونهم تراقبهم بكل حنان، ويحاولون إحضارهم إلى المجالس، ويدعونهم إلى السلام على الحاضرين، ويحرّضونهم على اقتحام عالم الكبار، ويحاولون إكسابهم الجرأة في ذلك، ويُثنون عليهم، ويدعونهم إلى زيادة جرعة السلام بقوّة وحرارة، والردّ على الضيوف بجرأة غير معهودة عند الأطفال، وآباؤهم يترقّبون وينتظرون سماع الإطراءات والإعجابات بأولادهم من الحاضرين... قد يبدو الأمر عاديًا؛ لأنّها محاولات من آباءٍ غيورين على أبائهم؛ يُريدون أنْ يُكسبوهم الجُرأة والقوّة، وحتى يُجنّبوهم التقوقع ويبعدوا عنهم الخجل، وهي طريقة مقبولة في التربية؛ حتى يتعلّم الولدُ القوّة والجرأة؛ لكنّها قد تنقلب لتصبح الجرأة وقاحة؛ حينما يتمادى الولد في تعامله مع الكبار؛ فيردّ عليهم بسَفَاهَةٍ وقِحَةٍ وقِلَّة أَدَبٍ، فلا يرتكس الأب، وقد يراها مِلاَحَة وظرافة، لا تستوجب النْهر والزَجَر واللوم!!
هؤلاء الأولاد المدللون؛ الذين يُقحمهم آباؤهم في عالم الكبار؛ قد لا يعرفون حدود المحظور في القول والفعل، ولا يدركون بأنّ الفواصل بين المداعبة والجديّة كبيرة، وقد ينطق أحد هؤلاء الأطفال بكلمة أو بكلماتٍ حادة وغير متوافقة مع عمره، وتكون سمجة وخشنة وثقيلة؛ فتتعالى الضحكات والتأييد والتشجيع لقول المزيد، وقد يتفاخر الأب أمام الحاضرين بنضوج ابنه قبل الأوان؛ يُريد أنْ يُشعرهم بأنّ تجربته قد نجحت في الدفع بابنه إلى عالم الكبار، وأنّه استطاع أنْ يزرع فيه القوّة وعدم الخوف؛ لا يدري بأنّه قد يدفع به إلى التمرّد، وقد يأتي اليوم لترتدّ هذه الطريقة البائسة في التربيّة، عليه، فيجد جرأة ابنه، في كبره؛ أصبحت نُشُوزًا عنه، وعِصْيانًا لأوامره، وفَظَاظَة في التعامل معه.
من الواجب؛ تعليم الأطفال حُسن الضيافة، والرقّة في استقبال الضيوف، والتأدّب معهم، وتعليمهم كلمات الترحيب بهم، وتعليمهم توقير الكبار ومنعهم من الجلوس قبلهم، وتدريبهم على تقديم الضيافة وقوفًا، بكل هدوء واحترام، ومنعهم من التكلّم بحضور الضيوف والكبار؛ إلا لحاجة، والردّ على أسئلتهم بأجوبة مقتضبة ومؤدّبة، كما يجب عدم المفاخرة بالأبناء، كثيرًا، أمام الآخرين، لأنّ الطفل قد يفتقد إلى قواعد التهذيب والآداب، ويصبح غير قادرٍ على معاملة أقرانه ببراءة الطفولة؛ لأنّه يقلّد معهم عالم الكبار، فيصبح غير محبوبٍ بينهم، وفي المدرسة، وفي مكان عمله عندما يكبر.
بالمقابل؛ قد تجد الأهل يقومون بانتقاد أبنائهم وتوبيخهم أمام الأقرباء والغرباء، عندما يرتكبون سوء تصرفٍ وحماقاتٍ بريئة؛ فيقع الأبناء في موقفٍ مُحرجٍ؛ يترك آثاره النفسية عليهم ويُشعرهم بالصِغار والدونية، وقد يقعون، بعدها، في صراعٍ نفسي لأيامٍ، وربما سنوات، وقد يترك ذلك عذابًا وتقريعًا ولومًا للنّفس، يحاول الطفل جاهدًا أن يُصلح الأمر، فتمضي الأيام، ليجد من الصعب تجاوزه، لأنّه قد أصبح، بالنسبة للآخرين، صاحب صفةٍ واسمة؛ كأن يقولوا عنه، دائمًا، بأنه ولدٌ مشاغب أو مشاكس، أو أنّه عنيد أو أنّه أخرق أو أنّه غبي وغير ذلك من صفاتٍ قد تلازمه طوال حياته؛ بعد أنْ سمع العائلة تُكرّرها على مسامعه ومسامع الآخرين، في الليل والنهار.
من الآثار النفسيّة لتوبيخ الأطفال، هي الانطوائيّة؛ فيلجأ الطفل إلى الانطواء على نفسه، ويتجنّب الاحتكاك بالمجتمع وبأهله؛ خشية أنْ يناله التوبيخ؛ لأنّه يصبح غير قادرٍ على التمييز بين ما هو مقبولٌ ومرفوض، فيفقد عفويّته ويصبح انعزاليًّا، وهذا ما قد يُنشئ شخصيّة ضعيفة وواهنة، لا تستطيع مجابهة الحياة بسبب فقدانه للثقة بنفسه؛ فيلاحقه الفشل في حياته العمليّة والزوجيّة والوظيفيّة... وعلى العكس تمامًا؛ فقد يصبح الطفل عدوانيًّا؛ يحاول الانتقام من أقرانه، وضربهم، كردّة فعلٍ على ما أصابه من مهانة، من قِبل أهله، وهذا قد يجعله، في الكِبر، من المتمردين على الأنظمة والعادات، ويصبح من أصحاب الجُنح وربما الجرائم.
إنّها معادلة ذات ميزانٍ دقيق؛ تتطلّب عدم الإفراط في تدليل الأطفال، وعدم الإفراط في معاقبتهم، مع الحذر الشديد في تنشئتهم والعناية بهم، ومحاولة زرع صفاتٍ نبيلة وكريمة، وتجنيبهم الفشل في حياتهم، لأنّ التربية السليمة تفتح لهم آفاق المستقبل ليكونوا سواعد في بناء أنفسهم وأسرهم ومجتمعهم.