وفاء سعيد الأحمري
نسمع كثيرًا عن الزمن الجميل وجيل الطيبين وتختلف معايير وتقدير من هم أصحاب هذا الزمن الجميل، من وجهة نظري أن الزمن الجميل يختلف عن جيل الطيبين ويوجد تصنيف أيضًا بجيل المخضرمين وجيل أصحاب السعادة. الزمن الجميل هو جيل من أعمارهم الآن فوق التسعين عامًا. جيل عاش حياة صعبة جدًا وتحولات متنوعة وقلة موارد. وهم الجيل الذي يشعر الآن أنه في غربة روح وفكر. حيث لم تعد تغيرات الحياة تفهمهم ولم يعودوا يفهمونها. هم جيل صديقتي الشيخة (غرسة) التي سأروي لكم بعضًا من قصصها وحكمها في هذه المقالة. هم جيل (طيب وتفكيري قديم).
يليهم جيل الطيبين وهم من تراوح أعمارهم بين الخمسين والثمانين عامًا. هم جيل معظم القادة والمؤسسين للعديد من الأعمال والوزارات حاليًا. هم من حفر في الصخر ليصل ويتعلم ويطور ويؤسس. هم جيل آبائنا وأستاذتنا، لهم كل الشكر والاحترام والمودة والتقدير. بعدهم حقبة الجيل المخضرم، هم مواليد نهاية السبعينيات والثمانينيات ميلادية، بل يشملهم أيضًا مواليد بداية التسعينيات. هم الجيل الذي شهد التحولات السريعة ويقف في المنتصف بين بقايا القديم وسرعة تطور الحديث. هذا التنوع جعل لهم نظرة ثاقبة وبعد نظر ويملكون أصالة القديم مع إلمام بالجديد. هم الجيل الذي يملك روح التغيير ويتطلع للتطوير، هم المطبقون لرؤية 2030. يليهم جيل أصحاب السعادة هكذا صنفتهم. وهم مواليد منتصف التسعينيات والألفية وما بعدها، أبناؤنا وطلابنا المحلقون بسرعة البرق مع التطور والتقنية هم من سيكون مستقبلاً لما بعد تحقيق الرؤية. ونتوسم فيهم كل خير وسنسعى بكل الإمكانات التي نملكها لنغرس فيكم مبادئ الوطنية والتطوير والتعليم. ومساعدتكم للوصول إلى الحياة المتزنة السعيدة الناجحة بخياراتكم ورؤيتكم الفذة.
نعود إلى الزمن الجميل ومع صديقتي التي تجاوزت التسعين من عمرها الشيخة (غرسة). ذات العينين الرماديتين والوجه المبتسم والضفائر الحمراء الطويلة. تسكن هذه السيدة في إحدى القرى البعيدة بجبال منطقة عسير، سيدة أصيلة كريمة دعتني لتناول القهوة في بيتها الشعبي القديم على أطراف القرية. حيث إنني عدت حديثًا من الغربة كما تقول ولي حق العزيمة والواجب. وهذه عادة أهل المنطقة في المبادرة بالضيافة وحسن الاستقبال وتقديم ما تجود به النفس من قليل يملكونه، أو كثير يجودون به بسخاء. قدمت لي من صندوق أثري في زاوية الغرفة بسكويت (ديما بالكريمة) وبسكويت (أبو الولد الأحمر) ويبدو أن مقتنيات هذا الصندوق ضيافة الضيوف المهمين. وكعادة النساء قديمًا أن يضعن الحناء ويتشاركن هذا النشاط لتمضية الوقت. وطلبت مني أن تضع لي الحناء ووافقت على هذا العرض المغري بكل سرور وفضول أيضاً. كيف ستعدها؟ كيف ستضعها؟ وكيف ستكون النتيجة؟
وفي هذه الأثناء دارت بيننا العديد من الأحاديث والقصص المثيرة التي تحكي واقع معاناة المرأة في تلك الأزمنة ومع ذلك كيف لها إن تمكنت من إدارة المشكلات بعقلية قائد يأخذ القرارات الحاسمة بشجاعة ويحسب المخاطر جيدًا، كان حديثها لا يمل وقصصها أشبه برواية متعددة الأحداث غير المتوقعة. كنت أفكر وهي تتحدث كيف لها أن تجاوزت كل هذه الأحداث؟. كيف تحملت؟ كيف عرفت أن تتصرف بتلك الإمكانات البسيطة في ذلك الزمان؟ فعلاً كنت أمام عقلية قائدة شجاعة.
وأنا هنا في هذه الزاوية سأحدثكم عن نصائحها الذهبية الثلاث بلهجتها المحلية: النصيحة الأولى (افلحي مع عيالك في أرض الله وتفسحي). افلحي في هذه الجملة تعني اذهبي في رحلتك للابتعاث مع أولادك واستمتعي بوقتك. النصيحة الثانية (ارعي بعمرك وافلحي مع العرب). كلمة (ارعي) هنا تعني اهتمي وراعي نفسك جيدا. و(افلحي) لها مرادف آخر تعني في هذه الجملة انجحي وحققي أهدافك فلقد قال الله في كتابه {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}، فالفلاح هنا هو النجاح. أعيد صياغة الجملة لتصبح اهتمي بنفسك جيدًا وحققي أهدافك أو كما يقال بالإنجليزية كما اسمعها كثيرًا من مشرفي في رسالتي للدكتوراه بروفيسور نيل دائمًا يقول لي، Be kind to your self and achieve your goals
النصيحة الثالثة (العرافة زينة ما لقينها في جيلنا) وتقصد هنا المعرفة جيدة ولم نجدها في زمننا، وتبين تحسرها أنها لم تتعلم وهي هنا تقدر العلم وتنصحني بذلك.
في هذا النصائح اختصرت هذه السيدة الفاضلة أهم دروس في التنمية البشرية وفي تطوير الذات. وكأنني أقف أمام مدربة حياة بدورات وخبرات حياة حقيقة ليست من كتب أو ندوات أو ورشة عمل. شرحت لي عجلة التوازن في الحياة أو ما يسمى بـ(Wheel of life) التي تشمل ثمانية محاور أساسية مهمة. ويوصي بها خبراء التنمية البشرية وتطوير الذات حيث إنها جوهرية لاتزان الحياة وتحقيق الأهداف والنجاح. هذه الجوانب تشمل الجانب العائلي والمهني والمالي والنفسي والتعليمي والجانب الديني والاجتماعي والصحي. وعندما يحدث تأخر في تحقيق أهدافك أو تريد التطوير من نفسك ومعرفة أين جوانب القوة والضعف لديك. ينصح بتقييم نفسك في كل جانب، ثم وضع خطة لموازنة هذه الجوانب وستعرف بعد ذلك من خلال عجلة الحياة هذه أين تبدأ بالتطوير؟ وكيف تجعل عجلة حياتك متوازنة وكيف تخطط لحياتك بطريقة لتصبح أكثر إنتاجية.
الشيخة (غرسة) في نصائحها الثلاث شملت معظم الجوانب في عجلة الحياة هذه. فلقد ذكرت أهمية الأسرة وجانب الاستمتاع في الحياة في النصيحة الأولى وهذا يشمل الجانب الاجتماعي من الترفيه وجانب العائلة. وفي النصيحة الثانية تطرقت إلى أهمية الجانب المهني وتحقيق الأهداف ولم تنس الجانب النفسي والاهتمام بالذات وإعطائها حقها وهذا يعد جانباً صحياً. والنصيحة الثالثة تحدَّثت عن جانب التطوير والتعليم. وهو الجانب الأهم في حياة كل ناجح يسعى لتخطيط حياته ليحقق التوازن فيها.
أدركت بعد الحديث مع أستاذتي (غرسة) أن هناك من الأميين من هم متعلمون ومعلمون ومستنيرون بالفطرة. وهناك من الدارسين المتعلمين إلى درجة الأستاذية هم في الحقيقة أميون في خبرات الحياة وإدارة الأزمات الحياتية. وينقصهم الكثير ليصلوا إلى حكمة هذه السيدة. في نهاية الزيارة غسلت يدي من (الحناء) وأبهرتني النتيجة وودعتها وأخذت عهدًا على نفسي أن أزورها مرارًا وتكرارًا. لأتعلم منها نمط الحياة والبساطة والعطاء والجمال الروحي بالمعنى الحقيقي. حيث إنها تملك روحا جميلة لم تلوث. ولقد صنفتها في قائمة معلماتي ومن أصدقاء الحياة المخلصين الطيبين.