محمد سليمان العنقري
شهد أبريل الماضي اجتماعاً لوزراء دفاع حلف شمال الأطلسي «الناتو»، ومن الطبيعي أن يكون مخصصاً لأغراض عسكرية إلا أن نائب أمين عام الحلف «ميرتشا جيوانا» فاجأهم بالتنبيه والتحذير بأن بعض دول الحلف ستفقد ما أسماه جوهرة التاج والتي قصد بها الصناعات الإستراتيجية والحساسة، وطالبهم بتحديد تلك الصناعات والعمل على عدم فقدانها، فما كان يرمي إليه جاء بعد ذلك في تقارير من مؤسسات أوروبية دعت لحماية أسواقهم من الغزو المالي الخارجي وتحديداً من الصين بهدف امتلاك حصص سيطرة في شركات مهمة تكون قد تعرضت لأضرار كبيرة وتحتاج لإنقاذ مالي مما يفتح شهية دولة مثل الصين تسعى لامتلاك التكنولوجيا والتأثير المباشر على اقتصاديات دول أوروبية وبالتالي على إدارة بوصلة مصالحها نحو الصين أكثر من غريمتها التي تتزعم العالم الولايات المتحدة الأميركية. فإلى وقتنا الحالي لم نسمع عن صفقات استحواذ كبيرة من قبل الصينيين في أوروبا لكن بنوك أوروبية أكدت أن لديها طلبات شراء لحصص في شركات القارة العجوز.
وبالعودة قليلاً لسنوات سابقة وتحديداً ما بين العامين 2008 إلى العام 2016م قامت الصين بضخ استثمارات في أوروبا بدأت بحوالي 850 مليون دولار ووصلت إلى 42 مليار دولار، فالصين لديها فائض مالي هائل يبلغ ثلاثة تريليونات دولار، ومن بين الأمثلة على نوعية تلك الاستثمارات قيام شركة مملوكة للحكومة الصينية العام 2016 وتدعى «كوسكو شيبينج بورتس» بالاستحواذ على حصة سيطرة في ميناء بيرايوس اليوناني، وأتبعت تلك الصفقة بالسيطرة على 3 موانئ في بلجيكا وإسبانيا، بالإضافة لحصص كبيرة في 10 موانئ أخرى في جميع أنحاء أوروبا. فالصين إذا أخذناها كنموذج حديث في طريقة استثمار سيولتها الضخمة بتحقيق إهداف إستراتيجية عدة سنجد أن كل ذلك ليس لتعظيم الأرباح أو تنويع الاستثمارات بشكل أساسي، بل هو بناء مصالح مع أهم الاقتصادات بالعالم في أوروبا وفي إفريقيا والشرق الأوسط، لأهداف عديدة منها امتلاك تكنولوجيا وصناعات متقدمة وكذلك إيجاد التوازن الدولي مع أميركا التي تمتلك عناصر قوة كبيرة أوسع نطاقاً من الصين، التي تريد بهذه التوسعات الخارجية إذابة هذه الفوارق إضافة لبناء شراكات من نوع مختلف تتشابك فيه المصالح مما يخفف الضغط على الصين من أي عقوبات أو تحركات أميركية ضدها بهدف منعها من الوصول للمركز الأول كأكبر اقتصاد عالمي.
وبالمقابل فإن أميركا تعي تحركات الصين وتتحرك هي الأخرى عبر شركاتها العملاقة العابرة للقارات بأن تكون هي السباقة للاستحواذ على أهم الفرص والحصص بأسواق العالم، وتعمل أيضًا على بناء تحالفات مع دول منافسة للصين بهدف التعاون على كبح نموها وتوسعاتها الخارجية، فالهند بدأت بحظر تطبيقات صينية تعدت الأربعين تطبيقاً فيما يمكن تسميته بداية «حرب التطبيقات»، وكذلك بريطانيا الحليف الأول لأميركا ستنهي وجود شركة هواوي على أراضيها فيما يخص بناء شبكات الجيل الخامس، وأيضاً قامت دول الاتحاد الأوروبي بإقرار خطة إنقاذ وتحفيز اقتصادي ضخمة بتكلفة ستصل إلى 750 مليار يورو بهدف تعزيز قوة الشركات الأوروبية لمواجهة تداعيات أزمة كورونا وفي الوقت نفسه تستغني هذه الشركات عن استقطاب أي مستثمرين خارجيين لدعم ماليتها، فيما تحاول دول أخرى مثل روسيا التوسع خارجياً خصوصاً في إفريقيا ليكون لها امتداد اقتصادي أوسع نطاقاً لتكون سوقاً لصناعاتها التي تسعى لتطويرها لتنافس خارجياً وتقلل بذلك اعتمادها على إيرادات النفط والغاز.
ما يحدث من بعض القوى العظمى حالياً ليس استثماراً للفرص إنما لتحقيق أهداف ومصالح عديدة تساعدها على تعزيز تواجدها الدولي بأكبر مما كان قبل أزمة كورونا، فهذه الجائحة خلفت أضراراً اقتصادية ضخمة ومنحت فرصًا للدول الكبرى لتكريس هيمنتها الاقتصادية مستغلةً نفوذها المالي وامتلاكها للتكنولوجيا، وفي الوقت نفسه فقر بعض الدول أو سقوط شركات مهمة، وهو ما يعني حراكاً كبيراً يحدث حالياً سينتهي لمشهد اقتصادي دولي جديد يمكن تسميته مجازاً بنوع من أنواع الاستعمار الاقتصادي الحديث الذي سيسهم بتشكيل وجه وخارطة جديدة لقادة الاقتصاد العالمي لما تبقى من القرن الحالي.