د. محمد بن يحيى الفال
قبل ثمانية وثمانين عاماً وبالتحديد في شهر جمادى الأول 1351هـ الموافق لشهر سبتمبر من عام 1932م صدر المرسوم الملكي من الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله- بتوحيد بلادنا باسم المملكة العربية السعودية، ومع هذا الحدث الكبير وضع الملك الموحد هدفًا أساسيًا اتضحت كل جوانبه منذ البدايات الأولى لتوحيد المملكة، ألا وهو العهد بأن يكون أمن بيت الله الحرام وأمن الحجاج والمعتمرين هو الركن المحوري وعلى رأس أولويات عمل الدولة الفتية، وجعل تنفيذ هذا العهد في تأمين الحجاج والمعتمرين الجزء الأساسي في الخطط والإستراتيجيات التي قامت عليها دولة التوحيد منذ نشأتها، والتي اختارت عبارة التوحيد الخالدة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» علمًا تفخر به يرفرف عالياً ولا ينكس أبداً. سار أبناء الملك المؤسس وكل مواطني بلادنا وكل وزارات ومؤسسات الدولة على تنفيذ العهد الذي تبناه الملك المؤسس في خدمة ضيوف الرحمن، وبأنها الركيزة الأولى التي يجتمع على تنفيذها الجميع قيادة وشعباً وتشريف من المولى سبحانه وتعالى والذي سخر لتنفيذ هذا التشريف قيادة وبلاداً تعرف قيمته ونبله وتسعى لتحقيقه ببذل الغالي والنفيس لأمن وراحة وطمأنينة ضيوف بيت الله من الحجاج والمعتمرين. العهد بخدمة ضيوف الرحمن والذي سنَّه الملك المؤسس مع بداية توحيد المملكة سار عليه أبناؤه الملوك من بعده وجعلوا تنفيذ العهد بخدمة ضيوف الرحمن من حجاج ومعتمرين على رأس أولوياتهم، ووضعوا كل مقومات الدولة المالية، الأمنية, الإدارية والصحية لتنفيذ هذه المهمة التي يتشرفون بأدائها بكل تفانٍ وإخلاص، ولقد رأينا مثالاً لهذا في حج العام المنصرم والذي كان حجًا نموذجيًا بامتياز وجاءت نتائجه مُتقنة -بحمد الله- ثم بتوجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ومتابعة مستمرة من صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود.
تاريخياً، فقد سجل المؤرخون للتاريخ الإسلامي بأن الحج قد عُطل أربعين مرة لأسباب بعضها سياسي، أمني، اقتصادي ولانتشار أوبئة. وجاء الحج هذا العام وكل أرجاء المعمورة مُبتلية بجائحة كورونا والتي استدعت تدابير وإجراءات احترازية غير مسبوقة لمواجهتها، ولقد شاهدنا كيف واجهت المملكة هذه الجائحة بشفافية سمعناها مع بدايتها بخطاب خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز والذي وجه لشعبه وللمقيمين على أراضي المملكة، وجاء فيه وبصراحة وكما هي عادته -حفظه الله- بأن الوضع صعب وسيكون أكثر صعوبة مع قادم الأيام، ومضيفاً بروح التفاؤل التي عُرف بها بأننا ومع صعوبة الوضع بأنه سوف يتم تجاوز الأزمة وبأن الدولة تضع كل إمكاناتها لتحقيق ذلك، وبوضعه سلامة الناس فوق كل الاعتبارات الأخرى نراه - رعاه الله - يؤكد هذا المفهوم في خطابه لقمة العشرين الافتراضية والتي كان محوره تأكيده بأنه وبرغم الصعوبات فإن الإنسان وسلامته يجب أن تكون هي الأولوية الأولى التي يجب وضعها دوماً في عين الاعتبار. لم يكن موسم الحج سوى أحد هذه القيم التي ركز عليها خادم الحرمين الشريفين خطابه لشعبه والمقيمين وخطابه لقمة العشرين الافتراضية، فموسم الحج هو مكان تجتمع فيه حشود من الناس جاءت من كل فج عميق ومن ثقافات وأعراق مختلفة، وبكون الجائحة الكونية من أهم خصائص الوقاية منها هو التباعد الاجتماعي والذي سيكون من المستحيل تطبيقه مع الحشود التي يشهدها موسم الحج كل عام. عليه كان قرار المملكة العربية السعودية بتقنين حج هذا العام عوضاً عن تعطيله، والذي جاء مسايراً للعهد الذي فرضته المملكة على نفسها بتأمين أمن ضيوف الرحمن. جاء القرار بتقنين عدد الحجاج لاعتبارات صحية تفرضها الظروف الطارئة والتي لا يجادل في صحتها إلا المغرضون الذين لا هم لهم سوى نشر الأكاذيب والأباطيل والتي تتحطم في حج هذا العام على صخرة الحقائق الطبية التي لا يختلف عليها اثنان. لم تكتف المملكة فقط بتقنين حج هذا العام بل جعلت كل النصيب الأكبر منه وبنسبة 70 % من العدد الإجمالي لحجاج هذا العام للمقيمين على أرضها من المسلمين، وهم بالمناسبة يمثلون غالبية الدول الإسلامية ومقيمين من دول بأقليات مسلمة ومواطني دول بلا أقليات مسلمة وأسلم مواطنوها بعد قدومهم للمملكة للعمل، علمًا، ووفرت لراحة وطمأنينة هؤلاء الحجاج كل الخدمات التي تقوم بها سنوياً دون تغير بل بإضافات جديدة تخص التكيد على سلامتهم بوضع كل الأجراءات الاحترازية وعلى أدق وأعلى المواصفات العالمية لحمايتهم من الإصابة بفيروس كورونا وغيره من الأوبئة. نسبة 30 % المتبقية من حجاج هذا العام خصصتها الدولة وبشفافية لمواطني المملكة العاملين في خطوط المواجهة الأولى للتصدي لفيروس كورونا والذي شمل العاملين بشكل كبير في القطاع الصحي وبعض العاملين في القطاع الأمني، وعليه فإن مواطني المملكة لن يكون بمقدورهم تأدية مناسك حج هذا العام وجعلت أولوية الحج لهذا العام للمسلمين المقيمين على أراضي المملكة. ومن المهم هنا التذكير بأن وزير الحج والعمرة الدكتور محمد صالح طاهر بنتن كان قد نبَّه وبعد عيد الفطر المبارك ومن خلال لقاء تلفزيوني بُثَّ من أروقة الحرم المكي الشريف بأنه يجب عدم التعجل في إبرام عقود للحجاج من خارج المملكة حتى تتضح الأمور على الأرض، والتي تبيَّن لاحقاً استحالة قدوم الحجاج للمملكة لأسباب كثيرة ومتعددة وأهمها القواعد الصحية التي فرضتها كل دول العالم لكبح انتشار الجائحة الكونية. الحديث عن الخسائر الاقتصادية التي سببتها الجائحة لكل القطاعات ومنها قطاع الحج والعمرة هو حديث طويل ومتشعب والخسائر في هذا المجال بمليارات الريالات، بيد أن الوفاء بالعهد بتأمين الحج وضيوف الرحمن حجاجًا ومعتمرين هو الهدف الأسمى والذي سنَّه الملك عبدالعزيز -رحمه الله- وتسير على خطاه المملكة منذ نشأتها وتوحيدها، وهو أمر تضعه فوق كل الاعتبارات الأخرى.
سنرى الكثير من الأكاذيب والتطاول على المملكة وكما جرت عليه العادة في كل موسم حج، مرة من إعلام ملالي طهران ومرة أخرى من الإعلام المغرض المؤدلج كقناة الجزيرة القطرية ومن يدور في فلكها من الإعلام المدفوع الأجر، وتارة من لؤم ممن علمته المملكة وأغدقت عليهم بحُسن الضيافة والإقامة ومنهم المدعو الحسن الددو, كل أكاذيب وأباطيل هؤلاء مجتمعين لن تؤخر أو تقدم في مسيرة المملكة نحو الوفاء بالعهد الذي أطلقه الملك المؤسس عبدالعزيز -رحمه- بجعل أمن ضيوف الرحمن من حجاج ومعتمرين هو أهم أعمال كل قطاعات الدولة. العهد ما زال مستمرًا من الملك المؤسس وحتى يومنا هذا برعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وصاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود.
ولكل الحاقدين رسالتنا لهم يكفينا في المملكة العربية السعودية بأننا الدولة الوحيدة في العالم التي تسخر كل مواردها المالية والإدارية والصحية والأمنية لخدمة حدث ما، وهو ما تقوم به المملكة في كل موسم حج استشعارًا منها بحجم المسئولية واعتزازها بتنفيذها بإتقان وعلى الوجه الأكمل، ويكفينا كذلك صور العائدين إلى أوطانهم من حجاج ومعتمرين وهم يلهثون بالدعاء لقيادة المملكة وشعبها على كل ما يوفرونه وبسخاء نادر لخدمة وراحة ضيوف الرحمن من حجاج ومعتمرين، الخدمة التي تعتز بها المملكة العربية السعودية قيادة وشعباً وتشريفاً يبذلون في تحقيقه الغالي والنفيس.