د.فوزية أبو خالد
سبق وكتبتُ سلسلة مقالات هنا في جريدة الجزيرة عن تجربتي حين أكرمني الرحمن بالحج, وكانت بعنوان «شجن الحج»، وقد نشرتُ أحدها في كتابي «كمين الأمكنة» 2016م، فما بالي أعود للكتابة عن الحج في هذه السنة التي ليس فيها حج للغالبية العظمى منا ومن أصقاع الأرض.
فَيال ألم المفارقة وطاقات تأملها حين يأتي موسم الحج الذي هو تجسيد ورمز للاجتماع البشري على اختلافهم وتنوعهم، وفي نفس الوقت الذي هو تجسيد ورمز لإرادة الذات للتوق والانعتاق في ظرف كوفيد19 الصحي القاهر لعام 1441م- 2020م الذي يفرض مسافات جسدياً وتباعداً اجتماعياً.
وإذا كان تطبيق ذلك الشرط الصحي قد تطلب اجتراحه جرأة سياسية في اتخاذ قرار الالتزام بمقتضياته، فإن هذه الضرورة الصحية للتباعد الجسدي والاجتماعي بقدر ما تطلب إرادة ذاتية وجماعية للالتزام بها فإنها تثير في موسم الحج على وجه التحديد، شجن الأسئلة حول التشابك المربك بين المفرد والجمع في مواجهة وحشة المصير البشري في الأوقات الصعبة العامة. وربما هذا الهاجس هو الذي أدخلني إلى عتمة الحبر وضوئه في كتابة هذا المقال.
* * *
دائماً ما تفتنني مسيرة الحج، وأجد في تفاصيل رحلتها الجسدية والروحية من أول قطراتها البكر كأمنية كامنة إلى البوح الذاتي بها كمشتهى، ومن لحظة تهيئة النفس لمهمتها الشاهقة إلى مساراتها كمهوى وهدفها كمنتهى حالة من الشعر الخالص كقصيدة مكتوبة بماء الذهب ممزوجاً بعذوبة الجهد والعرق في عمل صعب أو عشق شاق.
والمثير في هذا المسرى الشعري الفريد للروح والجسد الذي قد لا يُستقصى له مثيل إلا في رحلة الحج أنه بقدر ما يعبر عن ذاتية موغلة بالغة الفردية فإنه يعبر بنفس الشعرية عن وجد جماعي موغل بالغ الجمعية. فلا يستطيع اللهِف مثلي إلا أن يُبتلى ذلك البلاء الإبداعي الباذخ في مواجهة قصيدتين؛ قصيدة الذات وقصيدة الجماعة في مسرى الحج، ليجد في كل قصيدة منها ملكوت مستقل بحد ذاته بتعقيده الفذ وبساطته المتناهية. هذا بجانب دهشة قصيدة ثالثة هي طبقات متذرية ومتراكمة من الانفصام والالتحام بالقصيدتين في الفردي والجمعي منهما، وكأن كتاباً شعرياً عنوان الطريق إليه مسيرة الحج، يفتح فجاجه أمام من يروم قراءة.
* * *
وعلى أني لا أريد أن يفهم من كتابتي أي مساس -لا سمح الله- بقداسة الفريضة، ولا بالإيمان المطلق بالمصب العقيدي لينابيعها, فإني آثرت التنويه بأن قراءتي هنا ليست إلا مقاربة أدبية لتأمل التكوين الجمالي للحج أو أبعاد الحج الجمالية كمسرى روحي وجسدي دون التعرض ولا التعارض من قريب أو بعيد مع المقصد الشرعي لفريضة الحج.
* * *
يتسلل مسرى الحج إلى النفس البشرية المسلمة كأمنية مضمرة تكمن في قاع الروح على شكل نواة اسمها «نية»، تعيش على خبز وملح وماء اسمه الأمل، لتنمو تلك النية بين الأضلاع بحثاً عن شروطها الإنسانية المتجذرة بالضرورة فيما يسمى بتكوين «الاكتمال والنقص» في النفس البشرية من ناحية، وفي الاجتماع البشري من ناحية أخرى.
فشرط لازم من شروط رحلة الحج المعلنة هي الاستطاعة بمعناها المادي الصلب العيني المجسد القدرة (الجسدية والمالية)؛ أي البلوغ الجسدي والأهلية بما يشمل العقل والنفس والطاقة وحس المسؤولية.
وأجد أن رمز كل تلك المفردات المكونة للقدرة على تلبية نداء مسرى الحج المشتعل في الصدور الضاجة بالشوق إليه هي كلمة الاكتمال وإن بأشكاله الرمزية، فما أولئك تاريخياً إلى اليوم الذين قد تتجرح أقدامهم في الرحلة إلى الحج، أو من يجرون أحصنة أحلامهم على أشواك الطريق الوعرة والبعيدة والعزيزة للحج، أو من يجمعون الرمق على الرمق والقرش على القرش في طلب سبيل رحلة العمر ومهوى الفؤاد إلا بشر بالغ عاقل آهل آهب لكلمة الاكتمال بمعنى الاستطاعة إليه سبيلا.
أما الشرط الآخر المتضافر مع شرط (الاكتمال)، (الاستطاعة من البلوغ والأهلية إلى المقدرة المالية نسبياً ولو كفافاً)، وإن جاء ضمنياً وغير معلن بالضرورة لرحلة الحج، فهو ذلك الشرط الذي يحمل أهمية متناهية لا غنى عنها إطلاقاً لمسرى الحج كأمنية مضمرة وكنية مبيتة، وكمشتهى ومنتهى، وهو شرط النقص أو النقصان البشري. فرحلة الحج هي طلب ملح ورجاء ضارع، ودعاء حار، وحسن ظن لا ينفد بالخالق بديع السموات والأرض للتجاوز عن هذا النقص البشري الفادح، من خلال الحصول على منة العفو والمغفرة للذنوب والخطايا والأوزار والآثام، دقها وجلها، أصغرها وأكبرها، وخروج الحجيج حاجاً حاجاً، وحاجة حاجة، من رحلة الحج بفرداتها وفرديتها الذاتية، وبالتحامها ووحدتها الجمعية، خلوا من ندامات النقص وآلام الندامة وجروح الذاكرة وذلة الإثم, أنقياء أحرارا كيوم ولدتهم أمهاتهم.
وهنا يمكن تأمل مسرى الحج باعتباره مقاومة وخلاصاً للنفس البشرية من أثقال نقصها عبر هذا المعراج الجسدي والروحي المجيد. ولهذا تستبطن مظاهره وأفعاله معان عميقة لهذا الخلاص من النية والميقات والنظافة والتطيب والإحرام، والتلبية بالتهليل والتكبير، وطواف القدوم، ويوم التروية، ويوم الوقفة بجبل الرحمة بعرفة، إلى المبيت بمزدلفة، وإقامة أيام التشريق بمنى ورمي الجمرات، ومن طواف الإفاضة والسعي بين الصفا والمروة إلى الاغتسال سقيا ووضوء بماء زمزم لعطشى الجوارح والأرواح من جموع هذا المسرى المتلاحمة على اختلاف ألوانها وأجناسها ولغاتها وطبقاتها، وعلى استقلال كل حاج منهم بذاته المتفردة.
أحاول أن أختم هنا وقد فاض بي الحنين إلى رحلة التنزه عن الهوى، وأمضتني التباريح لمهوى الأفئدة.