د. حسن بن فهد الهويمل
تلك جملة من شوط دلالي قرآني، نُزعت من سياقها، لتكون حبل حلبة يتعلق بها المنهك، وينهي بها الجولة، حتى يأخذ أنفاسه.
حين دخلت عالم (تويتر) جاهلاً متناقضاته المزعجة، واثقاً باستقامة ذويه، وجدت تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وتهتك المتحللين المميعين لأحكام الدين، المتمردين على السلطات الأربع. منهم من يلوذ بالتحريف، ومنهم من يفزع إلى الانتحال، ومنهم من يمتطي صهوة (المجاز) {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ}، ويقولون منكراً من القول زوراً.
هذا التوظيف المغرض يقلق العقلاء، ويخيف الورعين، ويمكن للمارقين، والمترفين :{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}. و{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً}.
هناك (إرادة كونية)، و(إرادة شرعية)، فالله لا يحب لعباده الكفر بإرادته الشرعية، ولكن إرادته الكونية قَدَّرت الكفر لهم (عَلِمَ اللهُ فَقَدَّرَ). إنه الابتلاء، والامتحان، والتمحيص، والتذكير. يدخل أهل النارِ النارَ عدلاً، ويدخل أهل الجنَّةِ الجَنَّةَ رحمة. {لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب}.
هذه الجملة :{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}. اختلف المفسرون في استجلاء المقصود منها، حتى قيل إن (إبليس) يحتج بها، لأنه (شيء) و(اليهود، والنصارى) يحتجون بها كذلك، لأنهم في النهاية (شيء).وهذا تحرج، وتحفظ لا مكان له، فالآية واضحة، والمقاصد جليَّةٌ.
هذه الجملة : {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}. تأتي في سياق يحدد عمومها، ويضبط مدلولها. ثم إن القرآن يفسر أول ما يفسر بالقرآن نفسه، إذ هناك عموم، وخصوص، وحقيقة، ومجاز، وايجاز، وتفصيل.
وهناك سياق يجلي الالتباس، بصرف النظر عمن قال الله بحقهم {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ}.
ومن قبل أولئك (المعتزلة) احتجوا بقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فالقرآن عندهم (شيء). ومن ثم فهو مخلوق، وفاتهم قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} والله يقول: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ}.
فالله أثبت صفة (النفسية) لذاته، وهو قد حكم بموت كل نفس.
- فهل نحكم بموت الله؟.
اللغة العربية واضحة، لها مقاصدها، ومجازاتها، وعمومها، وخصوصها، ومطلقها، ومقيدها. ولا يجوز القول في الأحكام إلا من خلال المعرفة التامة بفقه اللغة، وعلومها.
نحن نقرأ في اليوم آية {الرَّحْمنِ الرَّحِيم}. عشرات المرات، مثلما نقرأ آية {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين} ثم لا نعرف مدلولها، ومحققاتها.
أحسب أن أقل الواجب أن يعرف المسلم الأحكام، والأدلة التي تتضمنها فاتحة الكتاب.
فكلمة (الرحمن) تعني الرحمة، وهي تشمل البر، والفاجر. المسلم، والكافر. المؤمن، والملحد. وهذه الرحمة التي وسعت كل شيء، هي (رحمة النعمة)، كالحياة، والصحة، والثراء، والأمن، وسائر النعم: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيم}. وهذه تشمل كل مخلوق مكلف، وغير مكلف، مسلم، وغير مسلم.
أما كلمة (الرحيم ) فهي (رحمة عفو)، ومغفرة. وتلك خاصة بالمؤمنين، لا تشمل الكفرة، ولا الملحدين، ولكنها قد تشمل عصاة المسلمين الموحدين.
وكلتا الكلمتين (الرحمن والرحيم) من أسماء الله، ولكنك تقول فلان (رحيم)، ولا تقول فلان (رحمن). مثلما تقول فلان كريم، والله كريم، ولكن يكون لله الكمال المطلق، فيما يكون للمخلوق الكمال المقيد المحدود.
فالرحمة التي وسعت كل شيء، هي (رحمة الإنعام)، أما رحمة المغفرة، فتؤخذ ضوابطها من السياق، والشوط الدلالي، المحدد بـ: التقوى، والزكاة، والإيمان بالآيات، واتباع الرسول الأمي. فالله حدد من سيكتبها لهم حين قال: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُون}.
الجهلة، والمشبوهون، والمغامرون، يترحمون على الكفرة، والملحدين، وإذا جادلتهم قالوا: رحمة الله وسعت كل شيء. ومن ثم يقعون في التحريف، والتضليل.
فالكافر الذي مات على الكفر، لا يجوز الترحم عليه، والملحد ينكر الخالق، فكيف تطلب الرحمة له من غير موجود في تصوره.
إنه الجهل، والعناد، والمكابرة، وطرد الغربة عن المنحرفين.
وما يعطيه الله للعاصي، والكافر، والملحد من النعم ليس غريباً، فلو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة، ما سقى منها الكافر شربة ماء.
ثم إن الله كتب الرحمة في كل شيء، فلا تجوز القسوة في القتل، ولا التمثيل، ولا اتخاذ الحيوان غرضاً. فالله عندما جعل لولي القتيل سلطاناً قال: {فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}.
وسواء كان الإسراف في التعزير، أو في التوسع في القتل، بحيث يقتل أولياء القاتل ظلماً، وعدواناً.
خلاصة القول إن الرحمة التي وسعت كل شيء، إنما هي (رحمة النعم)، وليست (رحمة المغفرة). فالأدلة كلها توجه لهذا، ومن غالطوا فعليهم الدليل، ولا دليل.