د. محمد بن عبدالله آل عمرو
عقد صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة بين المسلمين وكان قائدهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وبين كفار قريش ويمثلهم رسولهم سهيل بن عمرو، وكان كاتبه علي ابن أبي طالب -رضي الله عنه-، فلما اتفق الطرفان على بنود الصلح، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلي اكتب «بسم الله الرحمن الرحيم»، فاعترض سهيل وقال اكتب «بسمك اللهم» فأقره النبي -صلى الله عليه وسلم- عليها؛ ثم أكمل صلى الله عليه وسلم فقال: اكتب «هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو»، فاعترض سهيل وقال: لو كانوا يعلمون أنك رسول الله ما صدوك وما قاتلوك، وطلب أن يكتب اسمه فحسب، فوافق النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: «امحها يا علي» فامتنع علي -رضي الله عنه- عن محوها تأدباً، فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحيفة فمحاها، وقال: اكتب «محمد بن عبدالله»، متنازلاً صلى الله عليه وسلم عن بعض الميزات والمكاسب الآنية المحدودة من أجل الفوز مستقبلاً بمكاسب أعظم.
ولست في هذا المقال في صدد الكتابة عن صلح الحديبية وما كان من غضب الصحابة -رضوان الله عليهم- مما ظنوه إجحافاً في حق المسلمين، وما آلت إليه الأمور بعد الصلح من مخاطبة الملوك ودعوتهم للإسلام وتهيئة انتشار الإسلام خارج الجزيرة العربية، وتأديب اليهود في المدينة، ونقض قريش لبنود الصلح، وفتح مكة، ما يجعل ذلك الصلح نصراً عظيماً للمسلمين.
إن هذه الاستراتيجية النبوية الذهبية «امحها يا علي» يمكن أن تتعدد تطبيقاتها في مختلف مجالات المعاملات الإنسانية، السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والاجتماعية، وغيرها.
ففي مجال العلاقات الأسرية بخاصة، يلاحظ اليوم تحسس غالبية الناس مما يقال فيهم أو عنهم من أقاربهم، خاصة مع توافر وسائل التواصل الاجتماعي التي أسهمت في سرعة انتشار ما يقال وما يحدث إلى مسافات بعيدة في وقت وجيز، مع شيوع عدم الاكتراث لتطبيق ثقافة العفو والتسامح وحسن الظن وتجاوز الزلات باستخدام استراتيجية «امحها يا علي».
وإن من أسوأ نتائج عدم توطين النفوس داخل الأسر على «امحها يا علي» أن ما يقوله أو يفعله الأقارب في حق أقاربهم من التعليقات البريئة وغير البريئة ما عاد مقبولاً إلا ليعطي من المعاني والتفسيرات ما لا يحتمل من المظلومية والتجني، حتى إنك لتجد أحدهم يتمثل بحرقة وألم قول الشاعر: «وظلم ذوي القربى أشد مضاضة*** على النفس من وقع الحسام المهند»، ولو أن رشيداً فيهم استخدم استراتيجية «امحها يا علي» لوئدت جذوة الكراهية والبغضاء في مهدها، ولما قطعت الأرحام وساءت العلاقات، ولما انكفأ كل على نفسه كراهية الاختلاط مع أقاربه، وكأنهم لم يسمعوا بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحيح على شرط الشيخين: «الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم».
ولم تعد بعض الأسر تهتم بغرس قيم المودة والمحبة، وتوقير الإخوان والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات والأجداد والجدات باعتبارهم الامتداد الطبيعي للأسرة ذاتها، الذين يمكن أن يكون أحدهم يوماً في مقام الأب الغائب أو في مقام الأم الغائبة، فتنشأ عن هذا الإهمال الجرأة في مناقشة ما يصل إلى الأسرة من أقوال وأفعال ومحاكمتها وإدانتها بأبشع الأوصاف أمام الأبناء فينشؤون على كراهية أقاربهم، ويتكون لديهم الاستعداد للقيام بردود الفعل غير اللائقة تجاههم عند أبسط المواقف معهم.
ويتخلى الآباء والأمهات عن حسن تربية أبنائهم على استراتيجية «امحها يا علي» حينما يستقبلون بكل اهتمام وحرص شكاوى أولادهم مما يتلقونه من أقاربهم من نصح وتوجيه لهم بلزوم جادة الصواب في سلوكهم متى رأوهم على خلاف ذلك، أو حتى لوم وتوبيخ، على اعتبار أن أولئك الأقارب -كما غرس في نفوس الأبناء- غير حريصين أصلاً على مصلحتهم واستقامتهم، وإنما كانت نصائحهم أو أفعالهم تلك من باب الشماتة والتحقير وكسر الشوكة، ثم يتفاعل الكبار مع هذه الشكاوى الغبية ويحملونها ما لا تحتمل من التفسيرات الغبية أيضاً، وربما كانت ردات فعلهم عليها أشد غباء.
رحم الله أبي وآباءكم؛ فقد كلفني وأنا ابن تسع سنين بتوريد غنيمات لنا على مورد الماء في الوادي، وكانت مصابة بمرض أبو رمح وهو مرض حيواني معدٍ، فاختلطت غنمي رغماً عني بغنم أحد أقاربنا -رحمه الله وعفا عنه- فغضب غضباً شديداً وضربني بثلاث عصي من الأثل وجريد النخل تكسرت كلها على ظهري النحيل، وعدت إلى أهلي وما في جسدي موضع إلا قد تورم دماً، فكظم أبي غيظه، واستلهم «امحها يا علي» قائلاً: «إن رَفعتُها ففي الشارب وإن طَمنْتُها ففي اللحية»، وتجاوز الموقف المؤلم حفاظاً على ترابط الأسرة الكبيرة.
خاتمة للمقنَّع الكندي:
وإن الذي بيني وبين بني أبي
وبين بني عمي لمختلف جدا
إذا قدحوا لي نار حرب بزندهم
قدحت لهم في كل مكرمة زندا
وإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم
وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا