صدر مؤخرًا كتاب للصديق الدكتور راشد العساكر بعنوان (الحياة العلمية في مدينة الرياض في عهد الدولة السعودية الثانية) فألفيته كتابًا متميزًا أمينًا على معلوماته؛ إذ ذكّرني ضمن من زوده بجملة من الوثائق؛ فشكر الله له ذلك، وعلى إهدائه. وحين أبحرت في محيط كتابه، وغصت في أعماقه لرؤية واستخراج كنوزه، أرسيت مركبي في الضفة اليمنى من محيطه عند الصفحة الـ632 حيث كان الكلام على التداعيات الكبرى السياسية والشرعية لرسالة الشيخ القاضي محمد بن عجلان (ت: 1293هـ) في جواز الاستعانة بالكفار على البغاة المسلمين. وقد تحدث الدكتور راشد حول ما يعرفه نحو هذه الرسالة. وإسهامًا في تتمة الفائدة رأيت أن أحرر إضافات حولها للتوضيح، وذلك في محورين:
الأول: سبب التحرير ومكانه:
كانت بعد وقعة جود 1288هـ، واضطرار الإمام عبد الله بن فيصل للكتابة للدول العثمانية طالبًا منها مناصرته ضد أخيه سعود بن فيصل في تولي الحكم. وبما أن الشيخ محمد بن عجلان من علماء وقضاة الإمام عبد الله بن فيصل على بلد حريق نعام فقد أملى رسالة محررة بالنصوص الشرعية بجواز الاستعانة بها، وإن كان لديها أشياء من الكفر والمخالفات آنذاك. وقد صدر في حقها قبل ذلك بعض الكتب والفتاوى. ولم يجعل ابن عجلان لرسالته عنوانًا، ولم يذيلها باسمه، وكان الكاتب أحد أبنائه كما ظن ذلك الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ (ت: 1293هـ) في معرض رده على ابن عجلان.
موضوعها وقيمتها العلمية:
هي من إملاء عالم قاضٍ صاحب معرفة ودراية وفكر مستقل مميز، تشهد بذلك تحريراته القضائية وفتاواه العلمية، درس على العالم الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ. والمسألة تعد من كبريات النوازل والمسائل العقدية الفقهية التي يسوغ فيها الاجتهاد والخلاف، ولها مثليات، وهي أصل بارز في الحراك العلمي إبان الدولة السعودية الثانية، وبعد تحريرها بثها في بلدان الفرع وما حولها من الحريق والحوطة والخرج والأفلاج وبلد الأحساء والقصيم وحائل وعسير، حتى تسامع الناس عن خبرها، وأرسل منها إلى بعض العلماء والأشخاص، وانقسم نحوها أهل العلم إلى أربعة أقسام، وذلك بعد تقديم النصيحة المتكررة للشيخ ابن عجلان ومَن وافقه وأيده: فقسم سكت واحتفظ برأيه رجاء السلامة. وقسم باركها في بادئ الأمر ثم رفضها كالشيخ زيد بن سليمان (ت: 1307هـ)، وكتب للشيخ ابن عجلان نصيحة ودية في ذلك. وقسم باركها وأيدها كالشيخ عبدالرحمن أبا الغنيم الذي تلميذ الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ. وقسم حرر عليها ردَّين مجملَين ومفصلَين، نُشرا في البلدان المجاورة لبلد العارض. في ألفاظهما وعبارتهما شيء من التجاوزات، دافعهما الغيرة على الحق. فلفضيلة الشيخ عبداللطيف آل الشيخ (ت: 1293هـ) رد مجمل ومفصل، أطلق فيه على رسالة ابن عجلان اسم (حبالة الشيطان). والغريب كيف يسوغ تسمية رسالة مليئة بالنصوص الشرعية أنها حبالة شيطان!! وأما الرد الثاني المفصل فهو للشيخ حمد بن عتيق (ت: 1301هـ)، وحكم فيه أن هذه الرسالة موجبة للكفر والردة، حتى أن من وافق الشيخ حمد في مجمل رده لم يوافقه على أنها مسألة موجبة لتكفير وردة الشيخ ابن عجلان؛ إذ في ثنايا رسالة ابن عجلان أدلة وعبارات محتملة التوجيه والتصور والقبول، وظنية صحة الاستدلال والاعتبار. وقد أعقب هذه الردود والاستنكارات شبهات وتغير لمقصود الرسالة؛ وهو ما استوجب واضطر الأمر من الشيخ ابن عجلان تحرير رسالة أخرى، يجيب فيها عن الشبهات ولوازم بيعة ولي الأمر ووعظ العدو المتربص والبراءة والتوبة من تغيير مسار الرسالة الصحيح، وحررها وأملاها على تلميذه القاضي الشيخ محمد الغنيمي (ت: 1305هـ)، وتقع في (15) ورقة مؤرخة في (1-7 -1289هـ)، ولها نسخ أخرى موجودة في بعض المكتبات الخاصة، وقد وهم من نسبها لغير الشيخ ابن عجلان كالباحث عبد الله المسلم وتبعه آخرون. وبالجملة فرسالة الشيخ ابن عجلان والردود عليها، وتذيلها بطلب من لديه صواب في المسألة فليبنه، دليل قاطع على أن المقصد واحد في طلب الحق، وأن المصلحة الكبرى المجمع عليها هي حفظ أمن الدولة. وإن من تداعيات وآثار هذه المسألة لدى علماء وطلاب أئمة الدعوة المباركة أنها فتحت أبوابًا في مزيد نسخ الكتب والمراسلات العلمية، ودراسة وتحرير جملة من المسائل الشرعية السياسية ذات العلاقة في باب الولاء والبراء والإمامة والجماعة والجهاد والتكفير والعذر بالجهل ونحوها. ومن تداعياتها تجديد العهد بها لدى سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز (ت:1420هـ) في غضون استعانة (الدولة السعودية الثالثة) المملكة العربية السعودية ببعض الدول الكافرة إبان أحداث الخليج عام 1411هـ، وصدور الفتاوى والبيانات الشرعية المجيزة لهذا العمل السديد. والطريف في الموضوع أن الجامع بين الشيخين ابن عجلان وابن باز أنهما كفيفان. ولقد أبصر هذا الحدث عداء جماعة الإخوان المسلمين في الخليج العربي؛ فكشرت عن أنيابها نحو ما يراد لهذا البلد المحروس. ومن التداعيات أن هذه المسألة لا تزال قائمة، ولربما يحتاج إليها. وعلى أهمية رسالة الشيخ ابن عجلان، ومدى عظم أثرها وصداها وتداعياتها الشرعية والسياسية، فقد خلت معظم مصادر تراجم الشيخ ابن عجلان من ذكرها وذكر حقيقتها، كما أنه ليس لها أثر في الوجود ظاهرًا، ولربما تكون في بعض المكتبات الخاصة أو في بعض الأراشيف العثمانية، وإنما الموجود الردود، وفي ضمنها بعض نصوص رسالة ابن عجلان. والمنتشر الذي كان ينسخه ويتداوله طلاب العلم في عهد الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (ت: 1389هـ) إنما هو الردود، لا كما يظنه كثير من الباحثين أنها الحبالة؛ وهو ما يؤكد على المؤسسات والجهات المعنية بالبحوث وحفظ الآثار العلمية، كدارة الملك عبد العزيز (الموقرة)، بالسعي الحثيث على حصولها، والعمل عليها مع الردود والتداعيات.
ثبت بأهم المصادر والإفادات:
- جهود علماء الدعوة السلفية في نجد في الرد على المخالفين لعبدالهادي الخليف. ص/ 472.
- الدرر السنية في الأجوبة النجدية لعبد الرحمن بن قاسم. 8/ 364 إلى 394-9/ 294.
- عيون الرسائل والأجوبة على المسائل لعبد اللطيف آل الشيخ 1/ 277-239-438- 448- 2/ 782-871-948.
- القطبية هي الفتنة لأبي إبراهيم العدناني ص/ 86 إلى162.
- هداية الطريق من رسائل وفتاوى الشيخ حمد بن عتيق ص/ 160- 163-172- 185.
- مجموعة من المراسلات والوثائق المخطوطة في منطقة حريق نعام في الخزانة العلمية للمحرر.
- إفادة الوالد علي الحيان -رحمه الله- وشيخنا الفاضل إسماعيل العتيق والبحّاثة المميز إبراهيم آل الشيخ والدكتور الأديب عبد الله الدريس.
** **
د. خالد بن علي الحيان - المرشد الديني للقوات البحرية