م. بدر بن ناصر الحمدان
في بداية حياتي الجامعية، وبعد السنة الأولى سألت معيداً مصرياً درّسنا الرسم الهندسي ليساعدني في اختيار التخصص بكلية العمارة والتخطيط وكنا نقف حينها «بالصدفة» على درج الكلية وهو يتناول القهوة، فقال لي بلهجته المحلية: «بص يا عم بدر، خليك في العمارة، عشان التخطيط العمراني ده تخصص مش مفهوم وحاجة أي كلام»، نزلت من الدرج وسجّلت في مسار التخطيط العمراني عن قناعة تامة، وليتني سمعت كلامه وانتميت منذ البداية لتخصص مكتمل الشخصية مثل العمارة، ولم اضطر لخوض معركة الدفاع عن هذا التخصص «المُستباح» كل تلك الفترة التي مضت من عمري المهني.
بعد سنوات، عدت لدراسة الماجستير في كلية العمارة والتخطيط وتخصصت حينها في «التصميم العمراني» كنصيحة من أحد أساتذتي لتعزيز الجانب المعماري في مساري المعرفي وفق ما تتطلبه طبيعة عملي، ومنذ ذلك الوقت نما اهتمامي بمتابعة جدلية قائمة بين المعماريين والعمرانيين حول تخصص «التصميم العمراني»، فالمعماريون ينظرون إليه كأحد مستويات العمارة بمقياس أكبر، والعمرانيون ينظرون إليه على أنه أحد مستويات التخطيط بمقياس أصغر، وهذه الجدلية وما بينها من منافسة أفضت إلى تراشق عنصري «صامت» له خلفيته التاريخية التي لم يُصرّح بها كثيراً من قبل، فالمعماري - وكالعادة - ينظر بفوقية وتعال إلى المخطط العمراني وعلى أنه يفتقد لأسس التصميم وغير مُلم بكثير من المهارات الفنية وليس لديه القدرة على التعامل مع المقاييس الصغيرة (المباني، الفراغات الداخلية ...)، بينما ينظر المخطط العمراني إلى المعماري على أنه أحادي ولا يمتلك البُعد المعرفي الشامل الذي يمكّنه من فهم المنظومة العمرانية وبالتالي عدم قدرته على التعامل مع تخطيط المقاييس الكبيرة (الأحياء، المدن، ...) وكل منهم يحاول إثبات تفرّده بهذا المستوى من العمران، بينما يظهر صوت خافت من العقلاء والمحايدين يرى أن التصميم العمراني هو نقطة الالتقاء بين العمارة والتخطيط ويمثِّل التكامل المشترك بينهما، فيما يذهب آخرون الى كونه مساراً مستقلاً.
الكثير من التعريفات والمراجع ناقشت الفرق بين مستويات (العمارة، والتصميم العمراني، والتخطيط العمراني)، وكذلك العديد من الباحثين تناولوا هذا الجانب بإمعان، وخلصوا إلى نتائج كثيرة - سنناقشها في مقال آخر - لكن وعلى الرغم من ذلك، هذه الجدلية ما زالت قائمة حتى الآن، وإن كانت في وقت سابق غالباً ما تنتهي لصالح العمارة، ذلك التخصص الذي يمثِّل أصل العمران وصاحب التاريخ العريق سواء على المستوى الأكاديمي أو على مستوى الممارسة العملية، إلا أن الأمر بات مختلفاً تماماً اليوم، حيث إن ظهور جيل «مناضل» من المخطِّطين العمرانيين ساهم في الوقوف على مسافة واحدة من دائرة هذا الجدل القائم، وبدا صوتهم أكثر تأثيراً وعمقاً، ولا أعتقد أنهم سيتنازلون بسهولة عن تلك الأرض التي يقفون عليها الآن في حوارهم مع الآخر.
السؤال هنا: هل من المنطق الانجرار وراء مناقشة إلى أي مسار ينتمي تخصص «التصميم العمراني»، أم أنه من الأنسب التعامل معه بتوازن كبُعد ثالث «مستقل»، وما إذا كنا بحاجة إلى مبادرة لتحالف موحّد من أجل بناء مجتمع عمراني متكافئ، يضمن مناهضة «العنصرية العمرانية» إذا ما افترضنا وجودها.