عمر إبراهيم الرشيد
عندما لفظ جورج فلويد أنفاسه الأخيرة بعد أنين الترجي للشرطي الذي يبرك فوق عنقه لكي يستطيع التنفس، بدأت حقبة جديدة في تاريخ الأفارقة الأمريكيين بل والسود والملونين في الغرب والعالم، عندما اندلعت ولا تزال المظاهرات المؤيدة والمنددة بالتمييز العنصري المبطن والظاهر. التاريخ كعلم يسهل تفسير الحاضر واستقراء المستقبل، وإن كانت طريقة تدريس التاريخ في مناهجنا - وآمل أن تكون قد تغيرت - تعتمد أسلوب الحشو والحفظ، فإن دوائر صنع القرار غرباً وشرقاً ترجع إلى المؤرخين لدعم صناعة القرارات السياسية والاقتصادية وتحليل أسباب الأزمات والحروب. ما حدث لجورج فلويد وتهمته بالمناسبة هي المتاجرة بالعملات المزيفة، حدث وما زال يحدث لآلاف الأفارقة الأمريكيين ممن لم تظهر للعلن الطريقة التي قتلوا بها ولم يتم تصويرهم وهم يموتون مرددين آخر كلماتهم كما حدث لفلويد، الذي ما زالت القنوات الأمريكية والعالمية ووسائل الإعلام الشعبي تعيد تلك اللحظات المؤسفة لمقتله، إنما وعلى قتامة تلك الحادثة فإنها قد أطلقت حقبة جديدة في تاريخ الكفاح ضد الرق والعبودية، التي انتهت رسمياً ولكن بقي رمادها ساخناً ليشعل ما يسقط عليه من أعواد الفتن. فهذه أوروبا تخرج عن صمتها ويتظاهر في شوارع مدن عديدة الآلاف تأييداً للأفارقة الأمريكيين والملونين، حتى اندفع طلاب جامعة اكسفورد تجاه تمثال تاجر الماس وحاكم جنوب إفريقيا في القرن التاسع عشر الانجليزي سيسيل رودس ليسقطوه أرضاً، وهو مالم يفكر فيه طالب واحد قبل مقتل جورج فلويد، وسيسيل رودس هو من هلك آلاف الأفارقة في مناجم الماس التابعة للشركة التي أسسها (دي بيرز) والتي تسيطر على 60 % من تجارة الماس في العالم حالياً.
أما الأسلوب المتبع من قبل ذلك الشرطي ومرافقيه بل ومعظم أفراد الشرطة الأمريكية في القبض وتقييد المطلوبين، فكأنه يعيد إلى الأذهان أسلوب رعاة البقر في تقييد العجول وترويض الخيول في الريف والغرب الأمريكي، فهل ما زالت العقلية المتوارثة جينياً تعمل عملها في طريقة تعامل الشرطة مع المطلوبين والمجرمين، مجرد تساؤل. وبالمناسبة فقد بدأ الحديث في أمريكا عبر وسائل الإعلام وفي دوائر الشرطة والتشريع القانوني عن سن قوانين جديدة، تغير من سلوك أفراد الشرطة وطريقة قبضهم على المطلوبين، بعد تعاظم أعداد القتلى تحت أيديهم من السود وحتى البيض وإن كان بشكل أقل من السود.
وهذا دليل ومشهد آخر لتحول جورج فلويد إلى رمز للأمريكيين الأفارقة لما أحدثه مقتله وما يزال ليس في أمريكا كما قلت وإنما في العالم، في مسيرة مناهضة التمييز العنصري وبقايا العبودية، مثله مثل كونتا عمر كونتي المسلم الغامبي الذي اختطف في القرن السابع عشر من قريته وشحن مع غيره من الأفارقة إلى أمريكا كعبيد يتم بيعهم، ومالكوم اكس، مارتن لوثر كنج، نلسون مانديلا وغيرهم الكثير من رموز التحرر والنضال ضد العبودية. وبالمناسبة أيضاً فقد كتب أحد أحفاد كونتا كونتي كما ذكرت هنا من قبل، رواية (الجذور) وهي القصة الحقيقية لجده مع تطعيمها ببعض الخيال الأدبي الذي لا يؤثر في واقعيتها وذلك عام 1976 ، وحولت الرواية إلى عدة افلام سينمائية ومسلسلات وما زالت تلهم كثيراً من الأعمال هناك، إلى اللقاء.