د. جمال الراوي
الجزع؛ هو نقيض الصبر، وهو ما يحس به المرء من القلق والاضطراب وضيق الصدر، عند حدوث مصيبة أو مرض؛ فتظهر عليه مظاهر المضض والغم، فلا يعود يحتمل آثار ما أصابه؛ فيفزع وينخلع قلبه من شدة الرعب ويصبح آيسًا من أن يناله خير بعد ذلك!!... كما أن الجزع هو رديف «التسخط»؛ الذي يبدأ بالتغيظ والحنق من المرض أو من المصيبة؛ لأن هذا المتسخط يرى فيما حدث له ظلمًا قد وقع عليه، وأنه لا يستحقه، وأنه خطأ وغلطة غير مبررة من القدر، وسخطه بمنزلة احتجاج واعتراض ورفض وعدم قبول لهذا القدر؛ لذا يلجأ إلى النواح ولطم الصدور، وكثرة التشكي والبكاء.
التذمر والتشكي والتوجع والاستياء والتأفف والجزع؛ مترادفات لحالة من اليأس والشعور بالظلم لما أصاب الإنسان من مرض أو من موت قريب، أو بسبب كارثة في مال أو غير ذلك، وقد يلجأ إلى اللعن والسباب، وقد يبقى سخطه مجرد حديث نفس؛ مقرونًا بشيء من العبوس والقنوط!!... وكثيرًا ما نسمع تعبيرات لفظية للدلالة عن الجزع مثل: (هذا ظلم!!... هذا ليس بعدل!!... ما هذه العيشة!!...
للأسف؛ فإن الجزع والتذمر؛ أصبحا عادة متأصلة في مجتمعات اليوم، تجدهما وتسمعهما ليس عند هؤلاء الذين يشكون ضيق الحال فحسب؛ ولا من الذين يعانون من الضغوط الاجتماعية والاقتصادية التي يمرون بها، ولكنك قد تسمعهما من آخرين؛ ممن لا يسلم شيء في طريقهم من التأفف والتبرم؛ إن حشرت سياراتهم في زحمة سير، تجدهم ساخطين!! وإن تأخر عليهم الطعام تسمعهم يتشكون!! وإن أصابهم عارض مرضي تراهم متألمين وباكين، حتى لو أصابتهم «حكة» بسيطة في الجلد!!... هؤلاء ألسنتهم سليطة وصدورهم ضيقة ونفوسهم كئيبة... وهذا هو «الحطيئة» لم يجد من شيء يتذمر منه، ويسخط عليه، ويهجوه سوى نفسه فقال:
أرى لي وجهًا شوه الله خلقه
فقبح من وجه وقبح حامله
للأسف؛ ظاهرة السخط والجزع؛ أصبحت متكررة؛ نلمسها عند أغلب من أصابهم الأذى؛ قليلاً ما نجد فيهم الصابر والمحتسب، وقد لا يجرؤ أحدنا التفكير بمواساتهم؛ لأنهم لا يقبلون إلا وصف أحوالهم في البؤس والشقاء، وإذا قلت لهم غير ذلك؛ سيقولون لك إنك إنسان تتصنع المثالية؛ تحاول أن تظهر لهم تقواك وورعك الكاذب!! وسيضيفون بأن ما أصابهم يتجاوز قدرة أي إنسان على التحمل!! وفي هذا مغالطة كبيرة، لأن الله، سبحانه وتعالى، لا ينزل البلاء إلا بقدر، ولا يكلف إنسانا فوق طاقته.
لا شك؛ بأننا، في زمن كثرت فيه المصائب والابتلاءات، وأن كثيرًا من الناس، أصابتهم الشدة، ونال منهم البلاء، فحرموا من نعم كثيرة وهبها الله لعباده، وأصبحوا يعانون الجهد والمشقة في الحصول على الأموال والأرزاق!!... ولكن؛ مهما جزع الإنسان وتبرم، فليس له من ملجأ سوى الله، لأنه الذي يصرف عنه البلاء ويفرج همه، ويقضي له أمره... وليعلم هذا الجازع والمتبرم وكثير الشكوى؛ بأن الجزع؛ لا يرد مصيبة، ولا يمنع قدرًا، ولا يشفي مرضًا، ولا يواسي أو يخفف ألمًا، وهو تدمير للذات وللنفس، وباب يدخل منه الشيطان؛ فينفذ إلى النفس البشرية؛ ليزرع فيها اليأس والقنوط؛ فتصبح ضعيفة ومتهالكة وسهلة التأثر، كما أنه يؤدي إلى قساوة القلب وذهاب الرحمة منه، فيصبح الساخط عدوانيًا وانتقاميًا؛ وقد يصبح من الذين ينتظرون أن تحل المصائب على الآخرين؛ حتى يتشفى بهم، ويتلذذ بآلامهم وأحزانهم!!... أما الصابرون والمتحسبون، فيأتيهم العلاج سريعًا؛ فإذا بحالهم تنقلب انشراحًا في الصدر وقوة في العزيمة وطمأنينة في البال.