د. عيد بن مسعود الجهني
يقوم النظام الرأسمالي على وجود قانون سوق حرة ومنافسة حرة، وقد تعرض لتحديات جسام كادت أن تطيح برأسه، لكن رغم قسوة تلك الصدمات التي توالت عليه لم تستطع أن تطيح به بدءاً من الكساد العظيم عام 1929 وما تلاه من أزمات مروراً بكارثة 2018.
اليوم يعيش جائحة كورونا الهادرة، ولا يزال بعض رجال الاقتصاد ومنظريه يتفقون مع أبي الاقتصاد آدم سميث على أن النظام الرأسمالي يمثل عالماً بهيجاً للمنافسة الحرة التي تعد فيه لها القدح المعلى، بل إن المصلحة الخاصة على المدى الطويل تؤدي إلى ما فيه مصلحة الجماعة.
هذه الصورة الوضاءة التي رسمها سميث وتلقفها رجال الاقتصاد من بعده في التطبيق رغم مايكتنفها من أخطاء بل ومظالم بحق المجتمعات، ورغم وضوح رؤية سميث بهذه الصورة الجميلة، إلا أن بعض علماء الاقتصاد لم يترددوا بوصفها بالقاتمة والمتشائمة وفي مقدمتهم عمالقة الاقتصاد مالتس وريكاردو، على رغم أنهما لم يدعوا إلى إلغاء النظام الرأسمالي الذي بقي صامدا يصد الرياح العاتية التي تهب عليه.
وبقي النظام الرأسمالي الذي تلقى ضربات عدة أهمها كساد عام 1929 حياً يرزق رغم المرض العضال الذي تعرض له مما جعل مينارد كينز يذهب إلى تبني أفكار تؤدي على حد قوله إلى التغلب على ذلك المرض.
النظام الرأسمالي أخذ رجاله ومنظروه على عاتقهم بل وحكوماته الدفاع عنه بكل ما أوتوا من قوة، ولذا كان ميلاد مشروع مارشال (برنامج الإصلاح الأوروبي) سنة 1947 لانتشال اقتصاد القارة العجوز من الانهيار، وعلى رغم الحروب والصراعات التي أدارها القطبان الاتحاد السوفيتي (السابق) والولايات المتحدة ومنها الحرب الكورية وحرب فيتنام، بقي النظام الرأسمالي واقفاً على قدميه.
وكما نوهنا في مقال سابق (عبر ودروس في أهمية إعادة الهيكلة) أن الكساد العظيم (Great Depression) الذي ضرب اقتصاد العالم والذي خرج من رحم الاقتصاد الأمريكي لن يكون الأخير فالعالم شهد وسيشهد زلازل اقتصادية عديدة بعضها أكبر من أختها، نجد هذا في كارثة الرهن العقاري ليواجه الاقتصاد الأمريكي واحدة من أقسى وأسوأ أزماته ودخل في أتون كساد مخيف عندما بدأت سلسلة السقوط الرهيب لقطاع العقار في ذلك البلد، فعجز المقترضون الذين اقترضوا لبناء مساكن أو شرائها عن الوفاء لسداد ديونهم.
هنا سارعت الحكومة الأمريكية إلى دعم بعض البنوك لتحاشي انهيارها، لكن رغم التدخل المستمر إلا أن أكبر شركة تأمين في الولايات المتحدة الأمريكية سارعت إلى إعلان انهيارها ليتسبب ذلك في توقف عمليات الإقراض، لتحدث شرخاً عميقاً في خاصرة الاقتصاد الأمريكي الذي يعد الإقراض عموده الفقري.
عند هذا الحد المتدهور الذي أحدثه انهيار سوق العقارات في ذلك البلد الذي اعتبر خنجراً في خاصرة أكبر اقتصاد عالمي رغم تعاظم العجز في موازنة بلاده وميزانية الدفاع لوحدها اليوم نحو 700 مليار دولار لعام 2020 وبلغ ما أنفقته على حروبها في أفغانستان والعراق أكثر من (1) ترليون دولار وهذا الاقتصاد الضخم يبلغ إجمالي ناتجه المحلي (20) ترليون دولار، وديونه (24) ترليون دولار.
هنا الحكومة الأمريكية في عهد الرئيس بوش الابن لم تترك اقتصاد بلادها يغرق في وحل الاختناق بل سارعت لتطبيق نفس الأسلوب الذي اعتنقه كل من الرئيسين (سموت هاولي ورزفلت) إلى حد كبير في إعادة هيكلة الاقتصاد ليتمكن من التغلب على كبوته المميتة.
خطة الإنقاذ المالي السريعة تمثلت باعتماد مبلغ 700 مليار دولار لتنفيذ تلك الخطة العاجلة، بل إن الحكومة الأمريكية في تطبيق خطتها لإنقاذ اقتصاد بلادها سارعت إلى شراء الديون السيئة أو الميتة وشراء الرهون الميتة، بل وشراء مصارف على رغم تطبيقها للنظام الرأسمالي في تلك الفترة من تاريخ كارثة الرهن العقاري، وهذه استثناءات على صعيد النظام فالدولة تتدخل إذا رأت أن قانون اقتصادها قد يختل ميزانه إذا ترك الأمر جله للاقتصاد.
الخطة الأمريكية على رغم طموحها لم يكن بمستطاعها وقف زحف أزمة الكساد وتداعياتها آنذاك، فالأزمة استمرت لفترة ليست بالقصيرة ومثلت جرحاً عميقاً في جسد الاقتصاد الأمريكي وألقت بظلالها الكئيبة على اقتصادات العالم برمته، خصوصا تلك الدول المرتبطة عملاتها بالدولار.
لذا دب الذعر في أسواق الأسهم والسندات الأميركية وتعرضت لخسائر فادحة، وامتد الأثر إلى بعض دول أوروبا وبورصات الشرق الأوسط والأقصى وبالطبع البورصات الضعيفة في الوطن العربي!
وهذا كله يؤكد أن تراجع الاقتصاد الأميركي أو انكماشه يترك أثره على الأسواق المالية الأخرى.
وقد نالت بعض الأسواق المالية العربية نصيبها من تلك الرياح العاتية، كان وقعها أليماً على مستثمري الأسهم، الألم والحزن كانا أشد وطأة على صغار المستثمرين، وأهون على (صناع السوق) الأثرياء والمحترفين، وصفوة من المضاربين المحركين للسوق.
والمصارف العربية هي الأخرى لم تكن بمنأى عن استثماراتها في أمريكا التي دخل اقتصادها كساد كبير هذا إذا استثنينا الإمارات، التي قرر بنكها المركزي ضخ (50) بليون درهم في النظام المالي لتخفيف مشكلات السيولة المحلية.
صحيح أن ما حدث لم يقتصر على أصحاب الثروات، والمضاربين ورجال الأعمال والتجار وصغار المستثمرين... لكن (الهلع) وخيبة الأمل اللذين خلفهما، كان أثرهما فادحاً في طابور صغار المستثمرين.
كارل ماركس صاحب النظرية الشيوعية لو أنه ما زال على قيد الحياة لصفق فرحاً وطرباً وهو يرى الرأسمالية تغرق في حال كساد رهيب، ولو أن آدم سميث وزملاءه الذين أسسوا قانون السوق الحرة ما زالوا أحياء لأصيبوا بالكآبة ولأشفقوا وذرفوا الدموع على النظام الذي خرج عن طريقه المرسوم فاصطدم بالواقع المرير الذي ما كان يتمناه له منظروه ومؤيدوه.
المتتبع لتطور النظام الرأسمالي يخرج بنتيجة مؤداها أن المراقبة والتوجيه من قبل دولة النظام معدومة إلى حد كبير، هذا لأن النظام يرفض تدخل الدولة لكي تحد من نشاط الأفراد، فهم أحرار في أسلوب استثمار أموالهم، كما أن أصحاب شركات الإنتاج ليست هناك قيود على إنتاجهم.
هنا تبرز حرية المنافسة بين المنتجين خاصة منتجي النوع الواحد من السلع، وفي حالات كثيرة تشهد السوق فائضاً في الإنتاج يصعب تسويقها، وبذا تختل قاعدة العلاقة بين قانون العرض والطلب على السلع.
هذا نجده في النظام الرأسمالي وفي مقدمته الولايات المتحدة التي صدرت بامتياز للعالم أزمتين عالميتين نوهنا عنهما ومن أسبابهما عدم استقرار الوضع الاقتصادي في ذلك البلد الذي يقود اقتصاد العالم، ويطبق سياسة الإنتاج الكثيف لتغطية أسواق العالم، منذ الحرب الكونية الأولى ومروراً بالحرب العالمية الثانية وحتى اليوم.
ولكي تتحاشى دول النظام الرأسمالي الحد من الزلازل الاقتصادية وبسبب عبر ودروس تلك الأزمات، فقد بدأت الدول المنخرطة تحت ظل هذا النظام التحول الجزئي من النظام الاقتصادي الرأسمالي الحر إلى اقتصاد موجه في بعض القطاعات الحيوية كشركة المترو في فرنسا، وإنتاج الفحم في بريطانيا، وطبقت نظام المراقبة والتوجيه في ميدان الصناعة والزراعة بل والاستثمار.. إلخ. وحري بالعرب الاستفادة من تجارب الدول المتقدمة وفي مقدمتها الرأسمالية التي تسعى دائماً إلى الحذف أو الإضافة أو الإلغاء لبعض قوانينها وأنظمتها ولوائحها لصالح اقتصادها.
والعرب أغلى ثروة يملكونها النفط واحتياطيهم منه (55.6) في المئة من إجمالي الاحتياطي النفطي الدولي، وينطبق عليه قانون العرض والطلب في أسعاره.
وكما أن الدول الصناعية تراقب وتوجه الإنتاج لبعض سلعها، وتقف ضد زيادة الإنتاج حتى لا يكون هناك فائض ويختل ميزان العرض والطلب.
فإن العرب أصحاب ثروة النفط النفيسة أولى من غيرهم بمراقبة الإنتاج من سلعتهم (النفط) بالتعاون مع الأوبك والمتعاونين معها لضبط الإنتاج تمشياً مع الطلب العالمي على النفط.
وإذا كانت جائحة كورونا تختلف في مسبباتها عن الزلازل الاقتصادية السابقة في القرن المنصرم وهذا القرن.
وهي (الجائحة) (السوداء) ستلقي بظلالها على مسيرة الاقتصاد العالمي بشكل أسوأ بكثير من فترة الكساد العظيم وكارثة 2008.
وهذا سيسجله التاريخ الاقتصادي الحديث.
وللحديث بقية
والله ولي التوفيق،،،