«كان يمكن ألا أصاب بجن المعلقة الجاهلية» (محمود درويش)
بحث عربي يتخّذ الجنون موضوعا له يتصدّى له باحث سعودي تحت إشراف عبدالله الغذّامي. ولا ينصرف البحث إلى الجنون ظاهرة عامّة ومقولا شاملا مطلقا وإنّما يتحدّد ضمن دائرة مخصوصة بالنظر في الخطاب تشكيلا وتشكلاّ. ليست هذه المعطيات التي نعرض من باب مألوف التقديم ومعتاد التوطئة بقدر ما نروم بدءا تقرير سمتين أساسيتين في هذا البحث، أولاهما سمة الإغراء وثانيهما سمة المغامرة.
الجنون مسألة تفكّر ونظر ضمن مدار الدرس الأكاديمي العربي داخل مؤسسة عربية موسومة في الأغلب الأعم بالمحافظة ومراعاة الرسوم الاجتماعية والأخلاقية ومنذورة لإثبات سلطة المركز وهيمنته مقابل محاولات الهامش للتسلّل وافتكاك المواقع.
ضمن هذا السياق العام، يمكن أن ننزّل محاولة الباحث السعودي أحمد بن على آل المريع في تدبّر الجنون داخل حصون الثقافة العربية المختلفة والمتعدّدة بما هي مغامرة بحثية موسومة بالطموح إلى بلوغ نتائج طريفة ومغايرة من جهة ومدفوعة ومجهزّة بترسانة من الأدوات والمعارف الحديثة من جهة ثانية. وهو ما يحوّل هذه المغامرة البحثية من مجال البحث الأكاديمي المألوف والموصول بإحراز الدرجات العلمية وتحصيل الشهائد والرتب الجامعية إلى مجال التحدّي المعرفي الحقيقي على عدد من المستويات:
* أوّلها أنّ النظر لم يتّجه إلى الجنون في هذا البحث بما هو ظاهرة عامّة أو حتّى
ظاهرة عيانية ضمن مجال معيّن من مجالات الحضور الإنساني أو وفق مدار محدّد من مدارات الانشغال المعرفي. وإنّما أراد أن يكون بحثا في الخطاب الذي يقول الجنون والذي من خلاله ينقال الجنون. ولئن مثّل تحويل البحث من جهة الجنون عامّة إلى جهة الخطاب تحديدا علامة دالّة على وعي آل مريع بالبعد التداولي اللغوي الذي يحدّ الخطاب بكونه جملة الملفوظات اللغوية التي تتشكّل وفق أنظمة عمل محدّدة وترتهن بسياقات إنتاج وتلفّظ تطبع العمل الخطابي التلفّظي، فإنّ حقيقة البحث أنّه قد رام أن يشطّ في مغامرة الخطاب فلم تقتصر معالجته للخطاب عند كونه نظاما علاميا، وإنما تجاوز ذلك إلى فهم الخطاب بما فضاء سلطوي لانتشار السلطة وتوزيعها والصراع حولها وبما هو إنتاج اجتماعي محكوم بآليات المراقبة والتوجيه. إنّ جدّة المغامرة أن يتحوّل البحث من الظاهرة العامّة إلى خطاب الظاهرة وشدّة المغامرة أن ينصرف البحث عن الفهم اللغوي التقليدي للخطاب إلى الفهم التداولي ومنتهى المغامرة أن تتّسع دائرة تنزيل الخطاب لتمتدّ داخل حقول العلوم الإنسانية الحديثة فلا يحدّ بكونه مجرّد إنجاز لغوي وإنّما يتحولّ على مقتضى الفهم الفوكولتي إلى إنجاز سلطوي.
* أمّا الوجه الثاني من وجوه المغامرة فهي أنّ الدراسة معدودة وجها بارزا وعلامة واضحة على الجرأة البالغة داخل المؤسسة المعرفية، وذلك لما مثلّته من انتقال عسير من البحث في الأغراض والمواضيع المعلومة والمنضوية تحت جناح المنظومة الرسمية الثقافية والمعرفية العالمة إلى مجال المواضيع الموصولة بالهامشي والمسكوت عنه والواقع في دائرة الغفلة والنسيان والتجاهل. ومن ثمّة لا يمثل النظر في الجنون والحمق والبله مجرّد مغامرة جزئية وعابرة في اصطفاء مواضيع البحث والدراسة بقدر ما شكّل إرادة بارزة في اجتراح خطّ بحثي جديد داخل المؤسسة الرسمية وهولا يروم تقويض هذه المؤسسّة أو إضعافها بقدر ما يطلب توسيع أفقها ويعسى إلى إغنائها وربطها بدوائر بحث معرفية ونظرية إضافية.
* أمّا الوجه الثالث من وجوه التحدّي الذي يطبع هذه المغامرة البحثية فموصول بالقدرة على الجمع بين مجالات نظر متغايرة ومدارات انشغال معرفي متفرّقة ومتباينة تراوح بين اللغوي والفقهي والمفهومي والأدبي ولئن كان الانتقال من دائرة إلى أخرى مشروعا بطبيعة البحث الإجرائية وبمسالكه البحثية والمنهجية، فإنّ البلوغ إلى نتائج مثمرة ومفيدة تتجاوز تقرير الحقائق الجزئية والمعطيات الفرعية الموصولة بكل فرع معرفي على حدة إلى مساءلة النظم المعرفية والثقافية العامة وإعادة بناء تركيبها على نحو نسقي ينتهي إلى إثبات الخطوط الناظمة والمبادئ المسيّرة لعموم النسق المعرفي. وهو ما استطاع الباحث بوجه ما من وجوه التنسيب أن يبلغ فيه درجة متقدّمة من درجات النجاح والتوفّق. فقد أدرك عبر رحلة معاناة بحثية مضنية في التفاصيل والدقائق وفي الربط بين الفروع المعرفية المتفرّقة والمتغايرة منزلة الجنون وموقعه ضمن عموم المنظومة المعرفية الرسمية من جهة وضمن المحلاّت الهامشية أو الدوائر الواقعة بين الحدين المتقابلين والطرفين المتجافيين من جهة ثانية.
لذلك كان من الطبيعي أن يبين في عدد غير قليل من مواضع البحث عن أحكام دقيقة ومهمّة حول موقع الجنون من قبيل قوله: «الجنون في وجهه الثقافي توظيف متحيّز لصالح النموذج العالم/ المؤسّسي أيا كان مجال حضوره وفاعليته بوصفه سلاحا لغويا وموقفا اجتماعيا وتحيّزا معرفيا، يستبطن السلطة لعزل المخالف/ المتجاوز المستغلق ونفيه خارج دائرة العناية والاشتغال، أكثر من كونه وصفا حقيقيا لنقص في الكفاءة».
* ويتصّل الوجه الرابع من وجوه المغامرة في هذا العمل بما يمكن أن نطلق عليه مطلب التطويع أو المواءمة بين الأنظمة المعرفية والمقرّرات العلمية المختلفة. ولعلّه قد يكون من الأوفق من حيث دقّة العبارة وصواب الحكم أن نقول إدراك الغاية في توظيف المحصّلات النظرية الحديثة معرفيا ومنهجيا واستثمارها في معالجة الأصيل الثقافي العربي مدوّنة نصّية وظاهرة إنسانية، فإضافة إلى ما يتطّلبه التحصيل النظري للمعارف الغربية الحديثة في الفلسفة واللسانيات والتداولية وعلوم الأفكار ومناهج البحث والنظر من العناء الذهني والجهد الفكري، فإنّ تحويل تلك المعارف من مستوى المعرفة المجرّدة إلى مستوى الخبرة العملية والتفعيل الوظيفي في المعالجة والمقاربة قد مثّل تحدّيا حقيقيا ومحرجا للباحث من جهة درجة التوفّق في الربط والوصل أوّلا ومن جهة إحراز النتائج والإثمارات العائدة على مواضيع البحث ثانيا. ذلك أنّ اعتماد عدد من كبار أعلام الفكر الغربي الحديث والموجهين للفكر الإنساني المعاصر في مجالاته المختلفة مثل فوكو، وغرامشي، وقولدمان، وايزر، وأوستين، وغريس، وسورل، وفاتيمو، ولاكان، وبورديو، وبارت، والاتكاء على مقولاتهم والاستناد إلى ما انتهوا إليه من الأحكام المعرفية والآراء العلمية ليس مجرّد مظهر دالّ على غنى البحث وثراء الزاد المعرفي لدى الباحث وإنّما هو إلى ذلك حرمة ووسيلة إلى الرقي في درجات الممكن المعرفي ورتبة من رتب الاجتهاد الأعلى في تقليب النظر لبلوغ أسنى ما يمكن من الحقائق. وهو إلى ذلك بيان للناس أنّ الجامعة العربية عموما والجامعة السعودية عيّنة ومثالا حاضرة حضور شهادة في عالم المعرفة الحديث والراهن موصولة بحلقات العلم والبحث المستقرّة والفاعلة في العالم.
** **
فاكر يوسف - كليّة الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة - جامعة سوسة