«الجزيرة الثقافية» - حاوره/ جابر محمد مدخلي:
الروائي الكويتي الشاب عبدالله البصّيص، كاتب وضع لنفسه موضع أدب في مسارٍ يخصه، ولم يصل إليه إلا بعدما عصرته الثقافات والأنواع الأدبية خلال بداياته، فهو الشاعر النبطي منذ البدء. استطاع البصيّص أن يوجد لنفسه موضع إبداع مثبت داخل مساحات سردية لم يدخلها باعتقادي إلا بعدما أعدّ عدته ومنح لروايته الأولى التوالد في مساحات من الأجواء الراغبة بجعلها رواية قادرة على إثباته ضمن عدد من الأقلام الروائية الصاعدة في الخليج.
تلتقي به «الجزيرة الثقافية» في حوار شيق ومثرٍ، هذا نصه:
* في البدء نرحب بكم في حوارنا هذا مع ملحق «الجزيرة الثقافية» وننتهز الفرصة لنبارك لكم بصدور روايتكم (طعم الذئب) وتداولها باللغة الصينية، فأهلاً ومرحبًا بكم...
- الله يبارك فيكم، وسعيد بكم.
* برأيكم ما الذي أخرجكم من الشعر النبطي هذا الخروج الإبداعي المكتمل الأركان ليضعكم في بيئة السرد، هل يمكننا أن نقول: نفورًا من الشعر النبطي أم تشبعًا، أم أن الرواية استولت على إبداعكم وأعطتكم ما عجز عنه الشعر النبطي؟
بين عبدالله البصّيص الشاعر النبطي وبين حوارنا هذا سنوات حدثت خلالها حوادث إبداعية وانتقالات متصاعدة في مسيرتكم، نود الرجوع معًا للبدايات.
- أحب دائمًا في بداية هذا النوع من الأسئلة أن أعبّر عن اعتقادي بأن الشعر هو شيء لا يمكن تعريفه ولا لمس شكله، وأنه ليس القصيدة، القصيدة جنس أدبي حاله حال القصة القصيرة والرواية، والمسرحية، لكن الشعر يمكن أن يكون في كل هذه الأجناس. من هنا أقول نعم، ما زلت أكتب القصيدة النبطية بين فينة وأخرى، القصيدة النبطية رائعة ومؤثرة وهي الأكثر جماهيرية؛ اخترت الرواية لأنها الجنس الأبي الوحيد - لحد الآن - القادر على احتمال تعبيرنا عن تعقيد أفكارنا في هذا الزمن. فمع توسعي في القراءة والاطلاع، صار وعاء الشعر ضيقًا ولا يكفي لأدلق به كل ما لدي من رؤى وهواجس وتعبير عن حالة وجدانية أو نفسية، أو حتى فكرية. الذي وجدته في الرواية هو الفضاء الشاسع، الذي استطيع أن أكتب فيه كل الأجناس دون أن أكون تجاوزت الضوابط المتعارفة للتجنيس الأدبي.
* رواية ذكريات ضالة، رواية مدهشة ربما لأن مؤلفها استطاع إقناع القارئ بأنها حقيقية أكثر من كونها حقيقة؟ فهل استطاع البصّيص - أيضًا- منذ صدورها وحتى الآن إطفاء جذوة تحري القارئ العربي عن (سلمان) أم سيستمر في إقناعه بأنه غاب وأبقى نصه بين يديّ مؤلفه الذي دفع به لدار النشر باسمه نيابة عنه؟
- هناك تقنية أدبية اسمها «التغريب» يلجأ إليها الكاتب ليعمق درجة اقتناع القارئ بأنه يقرأ قصة واقعية، أول من جاء بها هو ثربانتس في دون كيشوت. وكلما اقترب القارئ من التصديق بأنه يقرأ قصة حقيقية كان تأثيرها عليه أكبر، وهذا ما نريد من الرواية أن تفعله. وإلى الآن تصلني الأسئلة من القراء: حول هل هي قصة حقيقية أم لا، وهذا يسعدني كثيرًا.
* هل تتفق معي بأن الشعر يجري بأوردة أعمالك بشكل يثبت في كل رواية جديدة أنه المعين الذي لا ينضب؟ وهل هي حالة تعلق بالشعرية أم باتت كتيمة لن تعرف أعمال البصّيص إلا بها؟
- ربما هو أسلوبي في الكتابة، بالرغم من أنني أحرص في كل رواية أن يكون صوت الراوي مختلفًا عن الأخرى، والأسلوب مختلف عن الصوت.
* مرة أخرى رواية «ذكريات ضالة»: في مجلة الفيصل العددان (503 - 504) قُدمت دراسة حول عتبات العنوان، ووصفوه بأنه «اعتمد على الشعر، لا النثر» أي غدًا اختزالاً شعريًا مملوءًا بالحس أكثر من كونه عنوانًا عابرًا.. فكيف اهتديتم إليه؟ وهل تتفق مع ما ذهبت إليه الزميلة مجلة الفيصل؟
- فلنقل إنني اعتمدت على المجاز فيها، والمجاز هو أحد الأشكال التي يفضل الشعر الظهور بها. من هنا، نعم، اتفق مع الزملاء في مجلة الفيصل.
* طعم الذئب العمل الروائي الثاني الذي كتبه البصّيص كما لو أنه - برأيي-أراد أن يقول: أنا روائي شاعر، وشاعر روائي؛ فاللغة التي استخدمتها فيها كان لها طعم الرصانة، والجزالة، والإغداق على القارئ بكرم هائل؛ ثم تُرجمت مؤخرًا إلى اللغة الصينية؛ إلا تعيق اللغة العالية التي فيها طعم ترجمتها ونقلها للغة مغايرة قد تؤثر في طعم تلقيها بجماليات ومؤثرات نفسية أقل؟
- كتابتها بهذا الشكل ضرورة فنية، فالبيئة شاعرة، والبطل شاعر والأحداث تحتاج إلى ومضات شعرية من حين لآخر لتجود بما بداخلها، واللغة أيضًا يجب أن تنتمي لعصر الحدث، بعيدًا عن مفردات الفلسفة والثقافة. والترجمة بحد ذاتها معضلة في حقيقتها الإبداعية، إذ إن المترجم يُعد الكاتب الثاني للعمل، ودقتها تعتمد على إبداعه في صنعته. فلا استبعد أن تنقل بروح النص وجسده إلى لغات أخرى؛ ففن الترجمة تطور وأصبح يمر بعدة مراحل، كالترجمة والتحرير والتدقيق ثم يقرأ العملين من شخص ضليع في اللغتين ويعطي ملاحظاته وهكذا.
* رواية طعم الذئب مرة أخرى، تقول: «مضى الظلام يسترسل دامسًا في الجحر ويُظلم أكثر فأكثر... « هذا الكنز التخيلي والصور الحس حركية مثلها الكثير داخل النص؛ هل شعر البصّيص أنه استنطق كل شيء يحيطه أثناء هذه الكتابة الروائية تحديدًا؟
- التشبيهات وأنسنة الأشياء جزء من طريقة الكتابة الإبداعية، ولا تأتي اعتبطًا أو لملء الفراغات، فهذا التشبيه أعلاه مرتبط بالجو العالم للحدث، ويسهم في إيضاح نفسية البطل، وغيره الكثير.
* هل يمكنني القول بأن» طعم الذئب» وتحريك ألسنة الذئاب والخوض في تجسيدها بأن ثمة تأثرًا بكليلة ودمنة في التراث الهندي لمؤلفه الفيلسوف بيدبا وناقله للعربية ابن المقفع، وبمزرعة الحيوان في الأدب العالمي، لجورج أورويل؟
- ما المانع من هذا القول! هذه حقيقة ثابتة؛ فأفكارنا الإبداعية هي نتيجة تلاقح عدة أفكار ورؤى، والتراث زاخر بالقصص التي نستطيع أن نسير بسهولة خلف مرجعياتها والأفكار التي تكونت منها.
* روايتكم الأخيرة (قاف قاتل سين سعيد) عنوان ذكي أو ربما استقطابي، هل يمكنني القول: إن التسعينات بتراكماتها وأحداثها استيقظت مؤخرًا بعد عملين روائيين؟ وهل يشعر البصّيص بقلق الثلاثية بعد هذا الإصدار؟
- لكل عمل حقله الذي يبحث به زمنه أيضًا، في (قاف قاتل سين سعيد) وجدتُ نفسي أسأل عن تلك الفترة، فترة المراهقة، لماذا لم يكتب عنها أحد كتابة جادة، فهي زاخرة بالمغامرات والحبكات والقصص، تتوالد منها القصص. هي فترة وعيت على آخر سنواتها لكني أسمع عن بهائها من أبناء عمي والزملاء وبعض الأصدقاء الذين عايشوها. فأخذت نفسًا عميقًا ودخلتها بفكرة كانت تدور في بالي منذ سنة، وهي أثر الصورة والكلمة. ولا يوجد أي شيء يدعو للقلق؛ فأنا أكتب عمّا يشدني وهجه.
* كنت ممتعًا وشيقًا لدرجة التمني بألا ينتهي حواريّ معكم مطلقًا، لكنه الختام الذي سأتركه لكلمتكم الأخيرة...
- أشكركم على إتاحة هذه الفرصة.