أما كون الترجمة هي سيميوزيس مختلف, فذلك لأن النص ينتقل إلى محيط ثقافي ومعرفي آخر مختلف عن المحيط الثقافي والمعرفي الأصلي. هذه البيئة الثقافية والمعرفية الجديدة تختص بسمات تختلف في كثير من مكوناتها عن البيئة الثقافية والمعرفية الأصلية، أي أنها تختلف عنها في طريقة النظر إلى العالم وموجوداته، وهو ما أطلق عليه العالم الألماني فايسغيربير «الرؤية اللغوية للعالم» التي تعني: مجموعة التصورات التي تمتلكها كل جماعة لغوية عن العالم وطريقتها الخاصة بها التي تشكلت على مدى التاريخ في التعامل مع مكونات الحياة وفهم الواقع. ويعود مفهوم «الرؤية اللغوية للعالم» في أصوله إلى مفهوم «الصيغة الداخلية للغة» الذي وضعه العالم الألماني هومبلت والذي يعني: الطريقة الخاصة بكل لغة في عرض الواقع في اللغة. وانطلاقاً من مفهوم «الرؤية اللغوية للعالم» ينشأ لدى مستقبلي الترجمة تأويل مختلف للنص ثم يتفرع عن هذا التأويل تأويلات ذاتية تنطلق من السمات الشخصية والفكرية للفرد، وهنا تكمن فكرة أن الترجمة هي سيميوزيس متعدد. إن فكرة تعدد التأويلات تضع على المحك أحد أشهر النظريات الترجمية التي تنادي بتطابق التأثير التواصلي، أي أن يتطابق تأثير نص الترجمة على مستقبله مع تأثير النص الأصلي على قارئه. إن تحقيق مبدأ تطابق التأثير يعد من الأمور الجدلية لأسباب عديدة، من بينها سبب وظيفي يتعلق بالنص, فلكل نص وظيفة وأحياناً يمتلك النص وظيفتين إحداهما رئيسية والأخرى ثانوية، وفي كثير من الأحيان يكتسب نص الترجمة وظيفة تختلف عن وظيفة النص الأصلي، وفي حالة تعدد وظائف النص الأصلي قد تصعد الوظيفة الثانوية الموجودة في النص الأصلي لتكون وظيفة رئيسية في نص الترجمة. فعلى سبيل المثال يؤدي النص القانوني عموماً، مع الأخذ بعين الاعتبار تنوع الأجناس القانونية، وظيفتين: إلزامية (مجازا: تحذيرية) وهي الوظيفة الرئيسية، ومعرفية وهي الوظيفة الثانوية. عند ترجمة نص قانوني من لغة إلى أخرى (لأهداف تعليمية أو بحثية): تتحول الوظيفة المعرفية لتكون وظيفة رئيسية في نص الترجمة، أما الوظيفة الرئيسية للنص الأصلي فتختفي في نص الترجمة. بل حتى طبيعة الوظيفة المعرفية مختلفة بين النصين، فالوظيفة المعرفية في النص الأصلي هي ذات طبيعة تنظيمية أي أنها ترتبط بثنائية الحقوق والواجبات. أما الوظيفة المعرفية في النص المترجم فهي ذات طبيعة «ثقافية». وبالتالي فإن تغير وظيفة انص المترجم يؤدي بالضرورة إلى تغير نوع التأثير بين النصين الأصلي والمترجم، فإذا كان التأثير التواصلي للنص القانوني الأصلي هو: حث المتلقي الأصلي على الالتزام بالقانون والتحذير من خطورة انتهاكه، فإن تأثير النص المترجم سيكون تأثيراً معلوماتياً.
أخيراً ما يتعلق بأن الترجمة هي سيميوزيس غير مباشر: ذلك لأن الترجمة تختلف عن السيميوزيس المباشر بوجود حلقة وسيطة وهي المترجم الذي يقوم بنقل النص بناء على تأويله الذاتي لمحتوى النص الأصلي، ولذلك كثيراً ما نرى، لاسيما في مجال ترجمة الأعمال الأدبية، ترجمات متعددة ومتباينة لعمل أدبي واحد. هذا يعني أن قارئ العمل الأدبي المترجم يقرأ، في الغالب، تأويل المترجم لرؤية كاتب العمل الأصلي.
** **
بدر بن عبدالله العكاش - كلية اللغات والترجمة - جامعة الملك سعود