د. محمد عبدالله العوين
بحيرة زرقاء رقراقة تلفها جبال خضراء أقرب ما تكون إلى الهضاب لتمنحها فضاء أوسع لرؤية امتداد الأشجار التي تكسو المنخفضات والمرتفعات إلى أن تتطاول الجبال وتشهق عالية من بعيد لتختفي بين ثلوج قمم الألب والغيمات السخية التي لا تكاد تغادرها.
رتب النادل بأدب ورفق مائدة الإفطار مع إشراق يوم بهي من أيام صيف مضى بلا كورونا، جولاي معدود عندنا في التقويم من أشهر الصيف القائظ ومعدود عندهم اسماً فحسب، فدرجة حرارة صيفنا تزيد على الخمسين وحرارة صيفهم لا تزيد على أربع عشرة!
فطيرة كراوسان محشوة بالجبن والزعتر، وقليل من عسل حقول زيلا مسي، وثلاث قطع زبدة موضوعة على الثلج بجانبها قطعة جبن طازجة وإناء صغير يحتضن حبات زيتون أخضر.
إفطار شهي، والأشهى منه ما لا يؤكل ولا يشرب؛ بل يرتوي منه القلب وتتشربه العين وتبتهج به النفس ما منحه الله هذا المكان من عطايا إلهية؛ فالبحيرة السارحة على امتداد النظر تحيط بها الجبال المنخفضة يميناً وشمالاً والمرتفعة الشاهقة في الواجهة، والأشجار الملتفة التي لا تدع شبراً واحداً دون أن تبسق عالية فيه، والثلوج المتلألئة مع إشراق شمس تسترق منفذاً بين السحب ثم تختفي، والطيور المغردة السابحة، والنسيم العليل الندي، ورذاذ المطر متداخلاً مع نقنقة طيور البط وهي تصفق بأجنحتها في انتظار فتات الخبز ينثرها الأطفال على شط البحيرة.
ومع كأس الشاي المنعنع وقدوم السواح إلى التراس أمام البحيرة من ساكني الفندق ومن العابرين الباحثين عن جلسة خلابة بعد مشي الصبيحة الباكرة بين الجبال والأودية، بدأت الحركة تدب في المكان، وتداخلت الأصوات بلغات متعددة بين الإنجليزية والنمساوية والعربية، كل الحروف تمر عابرة على مسمعي لا تستدعي يقظة ولا انتباها إلا الحروف العربية حين تخرج في استحياء بأصوات ناعمة رقيقة من الرياض أو جدة أو الكويت وغيرها من دول الخليج العربي، سافرة ومبرقعة وملثمة، لكنها تتفق على البحث عن الحياة، تتقطر منها الكلمات أغنيات شجية لها مذاق عسل معتق وطعم قصائد تغنى على أوتار عود مزقه الحنين والشوق، أصوات رمت خمسين درجة شواء في مطاراتها واحتضنت حتى تبللت رذاذ الصباح الغائم وسخاء بهجة قمم الثلج الشامخة الغائبة في غيوم الظهيرة والمساء.
ومن تراس فندق البحيرة الهادئ أخذتني قدماي إلى الأزقة الضيقة التي لا يفصلها عن الفندق إلا سكة القطار وقد رفعت الحواجز لمرور العابرين إلى شوارع التسوق الصغيرة؛ حيث المطاعم والمقاهي ومحلات بيع تذكارات السفر والأغذية الصحية والأعشاب والألبسة والآيس كريم.
وبعد تسكع متأمل انفتحت أمامي ساحة زيلامسي غير الواسعة تحيط بها كنيسة قديمة وبجوارها مبان تاريخية عتيقة وسوبر ماركت كبير ومتجر للسياحة، وتناثرت بأناقة طاولات المقاهي التي تحتل واجهة الساحة زينتها العائلات الخليجية بلثغة الأطفال وقصص الجولات السياحية، وكلمات تتردد على ألسنة الجالسين، كابرون، شلالات كريمل، سالفيدين، قارمش، إنها الحياة العذبة التي حرم من الاستمتاع بها كثيرون بعد أن صادرها بقسوة هذا الصيف فيروس كورونا.