محمد بن عيسى الكنعان
على امتداد مسيرتنا الحياتية بكل تفاصيلها اليومية، بآلامها وأحلامها، بتقلباتها واستقرارها، بأفراحها وأتراحها، بذكرياتها وغفواتها، بأيامها ولياليها تتجلى لحظات مغايرة تمامًا للسياق العام الذي نعيش، وكأنها خارج إطار الزمن وحدود المكان، عندما تحلُ لحظة الحقيقة بفاجعة مفاجئة ليست في حسباننا، وهي في طيّ القدر قريبة منا، ولله في خلقه شؤون، فنستيقظ على هول المصيبة وعظم الكارثة، ليس لغرابتها فالمصائب في حياة الإنسان من طبيعتها، ولكن لارتباطها بمن كان يسكن قلوبنا، وهو يعيش بيننا، من ربّانا صغارًا وأكرمنا كبارًا، من كان لنا الوالد بعطفه ورعايته وعطاياه قبل أن يكون الخال بقربه وسنده، من يصلنا قبل أن نصله، ويسأل عنا قبل أن نسأل عنه، ويفرح بنا ويحب اجتماعنا، من كان يعذر تقصيرنا وإن لم يكن لنا عذر، فلم نسمع منه يومًا ملامة بالقول، أو شكاية على الفعل، لأنه لم يكن يُجيد لغة العتاب أوحتى يعرفها. من كان يخفض صوته بينما تعلو أصواتنا، فلا يُجارينا ولا ينكر علينا. يُطيل الصمت، ويفرح بالناس، ويُكرم غيره، ويُحسن الجوار، ويتعامل بسماحة، لا يعتب على أحد وإن كان الحق معه، ولا يقطع وصل أحد وإن كان المبرر موجودا.
لهذا كانت فاجعتنا عظيمة بالخال الوالد حماد بن عثمان الحماد -عليه رحمة الله-، الذي ودّعته مدينة حائل ظهر يوم السبت 27 ذي القعدة 1441هـ الموافق 18 يوليو 2020م، وصُلي عليه ودفن جثمانه الطاهر في مقبرة صديان. ودّعته حائل وهي تعرفه تقيًا نقيًا عفيف اليد واللسان، لا نزكيه على الله هو أعلم بمن اتقى.
ودعته حائل وهي تعرفه لأن له في أكثر من مكان بصمة واضحة المعالم غائرة الأثر، بخصاله الحميدة، وأخلاقه الفاضلة، وتعاملاته الراقية، وشخصيته الجليلة المحبوبة. تعرفه بشهادة جيرانه في مربع (الحوازم) بحي المطار، وقبلها في حي الزبارة، وسوق سرحة من حي لبدة، تعرفه بالمسجد الذي يجاور بيته فلم يكن يتخلف عن أية صلاة؛ إلا لسفر أو مرض أو أمر طارئ، وبقرآنه الذي لم يكن يفارق يده، تعرفه حائل بصيته العطر في سوق الذهب ببرزان؛ فقد كان سمحًا إذا باع وإذا اشترى، تعرفه حائل بحضوره المتواصل لأداء الواجب في الأفراح والمناسبات ومجالس العزاء، تعرفه حائل ببطاح سهولها وشموخ جبالها، التي كان تستقبله في رحلاته مع أهله أصحابه كعادة الحائليين. تعرفه حائل بعائلته العريقة وأهله وأصحابه، الذين أحبوه حيًا، وبكوه ميتًا بمرارة الفراق ولوعة الفقد، وعلى مثل أبي خالد تبكي البواكي.
رحمك الله أيها الخال الوالد،- رحمك الله يا أبا خالد-، وجعل مقامك جنة الخلد، في عليين مع الشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقاً. -رحمك الله- كنت نعم الوالد، ونعم الخال، ونعم المربي بأخلاقك التي نراها واقعًا فعليًا في تصرفاتك، وفي كلامك. رحمك الله يا شقيق أمي وأحب الناس إلى نفسي بعدها. بكيت عليك والدموع في حقك رخيصة. والله يصبرنا على فقدك.