خالد أحمد عثمان
قبيل نهاية يوم الأربعاء 17-11-1441هـ، الموافق 08-07-2020م، صعدت روح المحامي الأستاذ شفيق عبدالحكيم عثمان إلى بارئها بعد فترة قصيرة جداً من المرض، ونقل جثمانه الطاهر من الرياض إلى المدينة المنورة (مسقط رأسه)، حيث دفن في البقيع.
الفقيد هو عمي نسباً، وأخي إخاء وروحاً، وصديقي وصفيي حقاً وصدقاً، نشأنا فترة من الزمن في رحاب بيت واحد؛ هو بيت جدي الشيخ عبدالحكيم عثمان -يرحمه الله- في المدينة المنورة، حيث كان هذا البيت وفقاً لتقاليد ذلك الزمان يضم الجد والجدة والأبناء وزوجاتهم والأحفاد، وظل كذلك إلى أن قضت سنة التطور أن يستقل كل فرع من الأسرة بمسكنه الخاص.
أنهى الفقيد دراسته الثانوية وابتعث عام 1958م إلى القاهرة، بينما كنت -آنذاك- في المرحلة الابتدائية، والتحق -يرحمه الله- بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، وتخرّج فيها عام 1962م، ثم عمل مستشاراً قانونياً في وزارة البترول والثروة المعدنية (وزارة الطاقة حالياً). وفي عام 1963م ابتعث إلى فرنسا للدراسة العليا، حيث التحق بكلية الحقوق بجامعة بوردو، ونال منها عام 1966م دبلوم الدراسات العليا في القانون، وهذه الشهادة تعادل شهادة الماجستير لأنها تؤهل حاملها مواصلة الدراسة للحصول على الدكتوراه، ثم عاد إلى العمل في وزارة البترول إلى أن استقال من العمل الحكومي عام 1973م، حيث عمل مستشاراً قانونياً في البنك الأهلي بالرياض إلى عام 1978م، حيث تفرغ لمهنة المحاماة، وكان من أوائل القانونيين السعوديين القلائل الذين تفرغوا -آنذاك- لمهنة المحاماة وقت لم تكن مهنة المحاماة شيئاً معتبراً، فهو من الجيل الذي وضع حجر أساس ترسيخ مكانة هذه المهنة وأهمية دورها في المجتمع، ومهد السبيل أمام الأجيال التالية لإعلاء البناء، وكان مكتبه في الرياض يعد من المكاتب السعودية المرموقة، ونشأت بين مكتبه وإحدى أكبر شركات المحاماة الفرنسية علاقة تعاون وثيق.
في منتصف السبعينيات من القرن الماضي تعرضت المملكة لحملة إعلامية شرسة في الغرب على إثر قيادتها حظر تصدير البترول العربي للدول المساندة لإسرائيل إبان حرب أكتوبر 1973م، فقررت الحكومة السعودية إرسال وفود إعلامية إلى أمريكا وأوروبا لشرح موقف المملكة من أزمة الطاقة وسياستها الهادفة إلى تحقيق السلام القائم على العدل في الشرق الأوسط وتحقيق التعاون بين الدول المتقدمة والنامية، فاختير شفيق عثمان والدكتور محمد الهوشان -يرحمهما الله- ضمن الوفد الإعلامي إلى فرنسا لإجادتهما اللغة الفرنسية، وقد أبلى الرجلان بلاء حسناً في أداء المهمة المطلوبة.
وإعجاباً بشخصيته سرت على خطاه، فدرست في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، وعندما تخرجت عام 1974م كنت محتاراً بين العمل في وزارة الخارجية أو وزارة التجارة، فنصحني -رحمه الله- بالعمل في وزارة البترول لأن ذلك سيتيح لي فرصة اكتساب خبرة قانونية محلية ودولية، وفعلاً عملت بنصيحته. وكنت أعمل في مكتبه في المساء فاكتسبت جراء ذلك خبرة متنوعة انعكست على أدائي في الوزارة.
وظللت أعمل معه إلى أن انتقلت إلى جدة عام 1983م. وكان الاتصال الهاتفي بيننا يكاد يكون يومياً، وكان هو المبادر بالاتصال في أغلب الأحيان.
ويدعوني الوفاء إلى القول بأني ربيت مهنياً في رحاب علمه، ونهلت من معين خبراته، واستوى عودي بفضل من فضله فكان نعم الأستاذ والمعلم، فجزاه الله خير الجزاء.
ولجمال خصاله وشمائله كان محبوباً عند جميع أفراد الأسرة وعند أصدقائه ومعارفه، كان كريماً وشهماً لا يتأخر عن نجدة من يطلب مساعدته، ولن أنسى أفضاله ما حييت.
كان له احترام وقبول حسن عند القضاة الذين ترافع أمامهم، حيث كان وقوراً وأديباً في مرافعاته لا يلجأ إلى أساليب التجريح الشخصي للخصم، وإنما يبسط حقائق الموضوع ووجهة نظره القانونية بشأنها من غير شطط في القول ولا إسراف في المجادلة.
كان أسلوبه في كتابة المذكرات القانونية يتسم بمستوى عال من الصياغة الأدبية؛ إذ كان متمكناً من اللغة العربية، وكان قارئاً لكتب الأدب والتاريخ والتراجم والسير الذاتية، فضلاً عن قراءاته في كتب الشريعة والقانون.
كان يجيد اللغتين الفرنسية والإنجليزية تحدثاً وكتابة، وفي المفاوضات كان بارعاً وأشهد أنه استطاع تسوية العديد من المنازعات صلحاً بين بعض موكليه وخصومهم بأسلوب ودي نال استحسان طرفي النزاع، فقد كان يؤمن بنظرية مفادها أن المحامي يجب أن يعتبر نفسه قاضياً في مطالب الطرف الآخر، مقارناً بينها وبين ما يتنبأ أن يكون حكم القاضي، مثله في ذلك مثل القاضي الذي يحاول بدوره أن يتنبأ بما سيكون عليه رأي محكمة الاستئناف. ولذلك كان يردد الآية الكريمة (والصلح خير)، ويستنتج منها أن الصلح القائم على التراضي هو أفضل أنواع العدالة.
وعقب نشر كل مقال لي، كان يهاتفني مشيداً ومشجعاً، وهو سعيد، فكنت أقول له (هذا من ثمار غرسكم)، فيرد علي بتواضع (ورب تلميذ فاق أستاذه).
لا وصف لما أعانيه من حزن لفراقه، ولكنها إرادة الله، ولا راد لقضائه.. (إنا لله وإنا إليه راجعون).
رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، والسلام عليه يوم مات ويوم يبعث حياً.