منذ فجر البشرية بدأ الإنسان في تنظيم عاداته، وأخلاقياته، وسبل معيشته، والتي باتت فيما بعد تعبر عن إرثه التاريخي، والحامل لمضامين هويته، وخصوصيته، والذي -أي ذلك الإرث- بات مع تناقله من جيل لآخر، يعبر عن تراثه، سواء ما استقر منه محفوظاً في المدونات المكتوبة، أو ما تم الحفاظ عليه في الأنماط السلوكية، أو المرويات أو غير ذلك من الأساليب, وعليه، يمكن القول إن الذاكرة التاريخية مرافقة للإنسان منذ وجوده على هذه الأرض، بسعيه الدؤوب لتشكيل حضارته وحفظ جوانب منها، في حلقات تاريخية متتابعة. ومن هنا، أن جزءاً جليلاً من حق الإنسان في وجوده التاريخي، يشكل التراث وثيقته التي تحفظ ذلك الحق، وتورثه جيلا فجيل.
إن لكل شعب تجربته الخاصة والمستقلة التي شكلت ملامح هويته الثقافية والحضارية، وبذلك فإن الحفاظ على الهوية الوطنية- التاريخية لكل مجتمع وحقه في امتلاكه، يحفظ تلك الهوية من الضياع، بداية من اللغة، وصولاً لأبسط أشكال التعاملات وحتى المقنيات المنزلية، وأنواع الطعام ... دون أن يعني ذلك انغلاق مجتمع ما على ذاته، يقول «أمين المعلوف» في كتابه «الهويات القاتلة»: «كل منا مؤتمن على إرثين: أحدهما عمودي يأتيه من أسلافه وتقاليد شعبه وجماعته الدينية. والآخر أفقي يأتيه من عصره ومعاصريه، وهنا وعلى مستوى الإنسان يسعى بشكل أكبر على امتداد إرثه من عادات وتقاليد في شكل جماعات خاصة بكل جماعة داخل الدولة الواحدة على أن يقع الدور الأهم في المحافظة على الهوية المعاصرة المبنية وهي الناتج الأكبر لكل دولة مما أنتجته من مخزون ثقافي وحضاري أكسبها حماية الدولة لمعالمها التاريخية ... إن النواة الحقيقة لبناء الهوية والذات الوطنية يتجلى بشكل أساس في ما يحفظه من تاريخه الماضي ويحافظ عليه في حاضره، وهذا ما يمكن تلمسه في عملية تكوين الهوية الوطنية، حيث نجد على سبيل المثال أن هناك شخصيات أسطورية لا زالت حاضرة في التاريخ المعاصر لمجتمعاتها، بل باتت تلك الشخصيات نماذج إنسانية يقتدى بها، ناهيك عن كثير من أنماط الحياة، والمفردات التي تخترق الزمان، وتعبر فيه بكل يسر، لتصبح جزءاً من ثقافة المجتمع بأفراده، ألسنا في مصر، ما زلنا نحتفل بشم النسيم، العيد الفرعوني، الذي يمثّل استمرار الحياة وانبعاثها، بل لا يزال الفلاح الفلسطيني، وبحكم العلاقة مع مصر القديمة، يسمي نار فرنه «آتون» باستعارة واضحة من اللغة المصرية القديمة ... بل وهل يمكن أن نقرأ الديانات التوحيدية ككل، دون المرور بأثر أخناتون فيها ... إن تلكم النماذج ما هي، إلا تجسد للتاريخ في وعينا الحاضر، ومشكلا لهويتنا المعاصرة، بعيداً عن اختزال الهوية بمعناها السياسي الضيق، والمثقل بالأيديولوجيا ...
وليس بعيداً عن موضوع التراث في ارتباطه بالزمان التاريخي، في مراحله الثلاث الماضي والحاضر والمستقبل، العلاقة بين التراث بما هو مكون أساسي للأصالة، والعصرية بكل حمولتها. سواء ما هو نتاج التطور الطبيعي للمجتمع أو ما هو وافد من خارج السياق التاريخي- الجغرافي للمجتمع. هنا، لا يمكن حسم الموضوع بمجرد اتخاذ موقف من أحد طرفي العلاقة، فليست الأصالة في تضاد مع العصرية أو الحداثة، كما أن المسار التوفيقي للعلاقة يأخذ في الغالب الأعم صيغة انتقائية -أي تنتقي من طرفي العلاقة ما يروق لها- أو تختزل الأصالة التراثية، أو مقابلها العصري في قيم معينة يتم التوفيق بينها. إن العلاقة التي نميل إليها، إنما تتخذ المنحى الجدلي، الذي يؤمن بوحدة مسار التاريخ، وصيرورته، وأن ما يحافظ عليه الإنسان من ماضيه يشكِّل جزءاً أصيلاً من تلك الصيرورة، وبعبارة أخرى، من حاضره، وبهذا المعنى، فإن التراث الأصيل، ما هو إلا نتاج خيارات عقلانية، هي في مواجهة مركبة مع عناصر من التراث تعتبر منتهية الصلاحية التاريخية، وأخرى وافدة، لا تنسجم في غاياتها، مع ضرورات التحديث والعصرنة التي تفرضها السياقات المحلية.
يُضاف إلى تلك الإشكالية، عنصر في غاية التشابك والتعقيد، ويتعلق بالنمذجة أو مركزة الحضارة، والتراث الإنساني حول الغرب، ومنجزه التاريخي الحضاري. وهنا، ودون الخوض في التفاصيل، فإن تلك النزعة أفضت في كثير من الأحيان لمحاولة مجاراة الغرب، باقتلاع الجذور الأصالية في المجتمع، وفي أحيان أخرى مارس الغرب، بفعل هيمنته الاستعمارية، ومن ثم الثقافية والإعلامية، محاولات لطمس تراثات الشعوب، في مسعى لقطعها عن تاريخها وإحكام السيطرة عليها، ناهيك عن سرقة جزء من تلك التراثات، والاخطر محاولة التقليل من قيمتها، أو نسبها حتى لغير الشعوب التي أنتجتها. وهنا لا يمكن فصل كل ذلك عن أن الصراع الحضاري، يأخذ مسارات وجبهات متعددة، ينحسر فيها العنفي في كثير من الأحيان، لصالح الجبهة الثقافية الحضارية، التي تشكل موقعا صراعياً فريداً بامتياز.
ولعلنا مضطرين هنا، بحكم دوافع معرفية، ووطنية، وقومية، للولوج إلى الحالة الفلسطينية، التي تشهد اشد واقوى المحاولات التي تهدد الهوية الوطنية والتاريخية باستمرار من قبل الاحتلال الإسرائيلي، الذي يسعى بشكل مستمر باتجاهين، الأول، طمس الهوية الوطنية الفلسطينية، والثاني إبراز التاريخ اليهودي، حتى عبر نسب جزء كبير من التاريخ الفلسطيني القديم للتاريخ اليهودي، وذلك في إطار مسعى لإحكام السيطرة على الفلسطينيين، أرضاً وسكاناً وتاريخاً وحتى مصيراً ومستقبلاً.
ولعلنا نستطيع تتبع ذلك، بدءاً من تحليل الرواية الصهيونية، حول أرض الميعاد، وتزييف جزء كبير من الحقائق التاريخية، بما يخدم الادعاء الصهيوني، بالحق التاريخي- الإلهي في فلسطين، وكيف سوقت تلك الرواية في العالم الغربي، لتشكل أساساً لدعم إسرائيل التي أقيمت على أنقاض أكثر من 500 قرية ومدينة فلسطينية محيت عن الوجود، ليولد الكيان الصهيوني في العام 1948 . حتى إن تلك الرواية لم تكتف بفلسطين وحدها أرضاً للميعاد، بل أعيد تفسير الكتاب المقدس، ليخدم العدوان الإسرائيلي على كل الدول العربية، حيث يبدو التفسير الصهيوني، وكأنه إعادة لتاريخ قديم، سيكون فيه دور الإسرائيلي، دور انتقامي لمظلمة تاريخية وقعت عليه في المنطقة، والأهم، ربط ذلك بالدور الرسالي للإسرائيل، وكأنها النموذج الديمقراطي الذي يصدره الغرب للشرق.
وبعيداً، عن الدخول في التفاصيل، فإن المسميات الفلسطينية التاريخية، نهباً لأسماء المستوطنات، والتراث اليدوي كالمطرزات يتم سرقتها وتقديمها للعالم بأنها جزء من التاريخ اليهودي القديم، وصولاً للقضية الأكثر حساسية، والتي تتعلَّق بزعم وجود لهيكل تحت الحرم القدسي الشريف.
إن حديثنا هنا، عن الطمس والسرقة التراثية، إنما استحضار للمعنى المقابل، وهو التراث كمشكل للهوية الوطنية، وهو ما يؤكد ما ذهبنا إليه منذ استهلالنا في هذا المقال. وربما نختم هنا، بالقول، أن الهوية القومية الجامعة، والتراث القومي الجامع، والذي ترفده مكونات عديدة، بدءاً من الحضارات القديمة، مروراً بالحضارة العربية الإسلامية، وصولنا للحظتنا الراهنة، يتعرض لأكبر محاولات الطمس، وهذه المرة بأيدي الإرهاب الذي يكتسح المنطقة، محاولاً أن يفرض الظلامية عليها، ممتشقاً الشعارات الدينية ... وهو ما يجعلنا أمام مسؤولية الدفاع عن تراثنا، وحضارتنا وهويتنا، بل ووجودنا، أمام الإرهاب والتبعية على حد سواء ...