يقول المدير السابق لبرنامج الدكتوراه في التخصصات البينية (Interdisciplinary Ph.D.) في جامعة فرجينيا للتكنولوجيا، «مشاكل العالم الحقيقي لا يمكن وضعها في إطار مجال أو قسم أو برنامج واحد... (ولذلك) نحن بحاجة إلى إتاحة الفرصة للطلاب الراغبون في معالجة هذه المشكلات». التخصصات البينية (أميل إلى ترجمتها بالتخصصات التكاملية)، كما جاء في التقرير الصادر من مركز دراسات التعليم العالي في جامعة ملبورن عام 2009 م، هي التخصصات القائمة على دمج المعرفة وأنماط التفكير الموجودة في مجالين أو أكثر لإنتاج معرفة جديدة، والتي من غير المحتمل إنتاجها من خلال مجال واحد، مثل تقديم تفسير من منظور تخصصات متعدِّدة، أو مفاهيم، أو حلول، أو فهم أعمق لمشكلة ما، أو منتج، أو سياسات. البرامج البينية بشكل عام تهدف إلى تمكين الطلاب لتطوير قدراتهم في فهم واستخدام وجهات النظر من التخصصات المختلفة، والتقييم النقدي للمعارف المختلفة، ودمج وتوليف المعرفة من تخصصات متعدِّدة.
ولا بد من ذكر أن استحداث هذه التخصصات والحفاظ عليها ليس بالأمر السهل نظراً للعديد من الصعوبات منها، وفقاً لتقرير أعلاه، أن شمولية أعضاء هيئة التدريس على خبراء في تخصصات متعدِّدة لا يكفي، بل يجب أن يشمل أيضًا على خبراء في التخصصات البينية. كذلك يوجد صعوبات متعلِّقة بتوقعات الطلاب، حيث قد يقاومون (أو يرفضون) العمل مع الأرقام إذا رأوا أنفسهم كطلاب آداب، أو كتابة المقالات إذا رأوا أنفسهم كطلاب علوم. وهي مشكلة تسميها جانيت مكلمان «مقاومة التعلّم خارج مناطق الراحة».
عدد كبير من الجامعات حول العالم استطاع توفير هذا النوع من البرامج، البعض منها قام باستحداث برامج تخصصات بينية محددة، على سبيل المثال، جامعة هارفارد لديها برنامج الدكتوراه في السياسات الصحية الذي يشمل على أكثر من 100 بروفيسور من 6 كليات مختلفة، منها الطب، والفنون والعلوم، والقانون، وإدارة الأعمال، وتصف الجامعة خريجون هذا البرنامج بأنهم مؤهلون لإحداث تأثير في الأوساط الأكاديمية، والوكالات الحكومية، ومراكز البحوث، ومؤسسات الفكر، والمؤسسات والشركات المختلفة.
كما تمتلك جامعات أخرى برامج في التخصصات البينية يقوم الطالب فيها بنفسه باختيار المجالات التي يرغب في دمجها، جامعة دالهاوزي في كندا كمثال، لديها برنامج دكتوراه في التخصصات البينية، تقول مديرة البرنامج، «افتتاحية مجلة نيتشر في 16 سبتمبر 2015 ذكرت «لحل التحديات الكبرى التي تواجه المجتمع - يجب على علماء الطاقة، والمياه، والمناخ، والغذاء، والصحة، وكذلك علماء الاجتماع العمل معًا»، أود أن أضيف إلى ذلك أنه ليس فقط هذه التخصصات التي لا بد أن تعمل معاً ولكن جميع الكليات والأقسام في دالهاوزي». وتصف الجامعة البرنامج بأنه «يمنح الطالب الذي يفكر «خارج الصندوق» فرصة لمتابعة شغفه. يقوم الطالب باختيار لجنة مكونة من مشرفين من كليات مختلفة، ويضع خطته التعليمية الفريدة ويتمتع بالانضمام إلى أفراد متشابهين له في التفكير وذلك لتطوير معرفة تكاملية جديدة».
بالنسبة للواقع في المملكة، قادني شغفي في مجال المحددات الاجتماعية للصحة، الذي يدرس تأثير الظروف التي ينشأ ويعيش فيها الفرد على صحته، إلى اكتشاف العقبات التي تواجه طلاب الدراسات العليا الراغبين في التخصصات البينية. خلال دراستي في كندا للماجستير، حصلت على قبول مبدئي لبرنامج الدكتوراه الموضح أعلاه من جامعة دالهاوزي، ولكن تبين لي لاحقاً أن البرنامج غير معترف به من قبل وزارة التعليم، كذلك محاولاتي في العامين الماضيين للالتحاق ببرنامج دكتوراه في إحدى الجامعات المحلية باءت بالفشل بسبب شرط امتداد التخصص.
ألاحظ وعي من قبل الجامعات المحلية حول أهمية البحوث البينية، وقيام بعضها بإنشاء مبادرات لتشجيع التلاحق بين التخصصات، ولكن في نظري، حتى تكتمل هذه الجهود، لا بد من استحداث برامج دراسات عليا في التخصصات البينية، والنظر في استبدال شرط «امتداد التخصص» بـ «الارتباط بالتخصص» عند التقديم على التخصصات القائمة وإتاحة الفرصة للطالب لشرح فكرته البحثية وكيف يرتبط تخصصه علمياً بالتخصص المراد التقديم عليه وذلك كما هو معمول به في الجامعات المتقدمة «Statement of Interest»، بالإضافة إلى فتح المجال للطلاب بالتسجيل في مواد من كليات مختلفة وفق ما يخدم اهتماماتهم ومسارهم البحثي وتسهيل التعاون البحثي مع الأقسام والكليات المختلفة.
«امتداد التخصص» فيروس قاتل، للإبداع والشغف والتفكير بلا حدود، وأتمنى أن تكون وزارة التعليم من خلال نظام الجامعات الجديد قد بدأت في مراحل إعداد اللقاح المناسب له.
** **
- رئيسة وحدة تمكين مجتمع البحوث في المركز الوطني للدراسات والبحوث الاجتماعية