الهادي التليلي
الترفيه يبقى هواء البشرية ومتنفسها في عزها وعزائها بل قل في وعيها ولا وعيها، لأن المنام شكل من أشكال الترفيه البيولوجي يجعلك تشاهد أفلاماً قصيرة وتقابل أشخاصاً دون أن يكون قد حدث ذلك في عالم الوعي، لأن الترفيه مؤسسة تتملك الإنسان منذ دخل الوجود ويرافقه إلى غاية خروجه من الفانية على حد العبارة الأفلاطونية الترفيه هو العملية الرياضية التي تخرجك من عالم المحسوس المدنس إلى لحظة التقاء بالأزلي المقدس حيث يقول من لم يكن رياضياً لا يدخل علينا، والمقصود بالرياضي القدرة على تجاوز المحسوس إلى المجرد وهي عملية روحية ترفيهية وحتى الكاثارسيس الإغريقي والتي هي التطهر والاغتسال الروحي من عالم الدنس هي ممارسة ترفيهية بامتياز تخرجك من اللحظة الساكنة في العدم إلى زخم المعنى، لذلك قلنا ونقول باستمرار الترفيه هو «الإنسان وهو يعبر» لأن التعبير شكل من أشكال الترفيه بالمعنى النفسي للكلمة، وهنا يستوقفنا اعتبار سيغموند فرويد مؤسس علم النفس التحليلي إلى أنه حتى الرضيع الذي لم يتشكل بعد وعيه البسيط بالعالم وهو يرضع ثدي أمه يشعر بلذة إيروسية بمعنى وأن الرضيع يمارس عملية ترفيهية برضاعته ثدي أمه، وأبسط تعريف للإنسان هو كائن مترفه في حزنه يترفه فحتى عويل النائحة بذلك الإيقاع الحزين المؤثرهو ممارسة ترفيهية معدلة بظرف وحالة معينتين، لذلك في بعض المجتمعات تمتهن بعض النساء هذه المهنة وتأسست عبر التاريخ نجوميات لنساء برعن وذاع صيتهن في هذا المجال الترفيهي هذا في حزنه كذلك في فرحه فهو أيضاً يترفه ولا توجد لحظة خارجة عن مدار الترفيه، لذلك فالترفيه ليس بدعة أو رجسا من عمل الشيطان بقدر ما هو فعل ملازم للإنسان وغيره من الكائنات الحية، والفرق بين الإنسان وغيره هو الوعي بالفعل الترفيهي. ولو نظرنا إلى المجتمعات الاشتراكية التي راهنت على الترفيه كعلامة بارزة في خطابها وفي ممارستها الاجتماعية معتبرة أن الترفيه هو متنفس الطبقة البروليتارية وهو ما يسمح بنقل الوعي الثوري عبر الجهد الترفيهي كما يمثل قطباً أساسياً في التأثير على الجماهير، لذلك كلما ظهرت جمهورية شعبية اشتراكية برز الترفيه كمؤسسة، وهنا تحضرنا حكومة الجبهة الشعبية الفرنسية 1936 والتي أسست أول وزارة للترفيه ورحلت معها بحكم كون هذه الحكومة لم تعمر طويلاً، ولكن في الحقيقة لم يرحل الترفيه معها بل تزايد الاهتمام به ممارسة طيلة فترة ما بين الحربين وبعدها ولنينقط حبل صرة الإنسان بالترفيه طالما هو على قيد الحياة.
بل والتجارب النازية بألمانيا والفاشية بإيطاليا ركزتا على الترفيه كأساس التعبئة والتأثير، فكانت العروض الفنية الشوارعية وأداء الشعر المؤثر بمكبرات صوت عملاقة تستولي على الاهتمام، وتجعل الجميع فيما يشبه التخميرة الصوفية لفطر تأثير الفنون على النفوس، بل ولو عدنا لمجتمعاتنا القديمة الزراعية منها مثلاً نجد أن المزارعين بعد صابة المحصول الفلاحي ينظمون مهرجاناً واحتفالات فرحة بالصابة من جهة وشكراً لله وفي بعض المناطق تبركاً بأوليائهم الصالحين، وهذا معتقدهم لهذا نجد مهرجانات عديدة في العالم العربي تحمل أسماء أعلام وأولياء صالحين، هذه الاحتفاليات تعتبر النواة الأولى لنشأة المهرجانات ونفس الشيء بالنسبة للمجتمعات التي تعيش من البحر وخيراته تحتفل كلما أنعم الله عليهم بصيد وفير.
وعلى ذكر مأسسة الفعل الترفيهي حري بنا أن نذكر بأن المملكة العربية السعودية دخلت تاريخ مأسسة الترفيه من الباب الكبير بل وصارت من عواصمه العالمية من خلال الأنشطة الترفيهية العملاقة التي استقطبت في موسم الرياض ملايين المتابعين، ولعل السؤال الذي يطرح نفسه ما الذي جعل الجميع يتفاعلون مع الحدث الترفيهي السعودي بعفوية بشكل جعل الجمهور رقماً وازناً في معادلة نجاح الجهد الترفيهي وما الذي جعل جماهيراً من أقاصي الدنيا تقطع آلاف الكيلمترات بالنقل الجوي لحضور فعاليات وفقرات ترفيهية، وما الذي جعل منتدى صناعة الترفيه 2019 والذي شارك فيه أبرز فواعل الترفيه في المعمورة من نجوم تمثيل وغناء ومستثمرين ومفكرين الحدث الترفيهي الأميز لسنة 2019 على مستوى العالم؟
والجواب هو أولاً الترفيه ليس خارجاً عن الإنسان السعودي فهو جزء منه كيف لا وهو الذي يحتل مراكز عالمية ريادية على مستوى الرفاه الاجتماعي والقدرة الاستهلاكية والأمان وجودة الحياة، وثانياً الكيفية وجودة أداء التنظيم وفق مواصفات عالية الجودة والاعتماد أبهر الحاضرين، وثالثاً الخطة التسويقية الاحترافية متعددة السطوح مست الجميع وأشعرت أهالي المكان بنخوة الانتماء لمدينة هي قطب العالم ترفيهياً، ورابعاً أسماء النجوم الذين استقطبوا اهتمام الحاضرين وتوفرت فرصة مشاهدتهم مباشرة وكذلك عيش لحظة تاريخية تتمثل في تحول الرياض عاصمة تاريخية كونية، خامساً تأسيس فضاءات ترفيهية متكاملة وحديثة أخرجت العائلات إليها لجماليتها ولتكامل الخدمات فيها وهي لا تقل قيمة عن التي يسافرون إليها عادة في أوروبا أو حتى في بعض الدول الخليجية الأخرى إضافة إلى مسارح وأماكن عرض وفعاليات راقية.
عودة الأنشطة الترفيهية تحت شعار يستجيب لطبيعة المرحلة «ترفيهنا آمن» يجعل الحياة تنتصر على العدم والفرحة تهزم كورونا.