حسن اليمني
يبدأ بناء البرج بحفر الأرض ثم البناء في العمق وحين يبدأ بالظهور لنا نحن العابرين من حوله قد يلفت انتباهنا لفترة ثم نمر متجاهليه، وحين يكتمل ويضاء نشعر بشيء من الزهو والثقة رغم أنّا لا نملك فيه قطميرا، فيا ترُى ما سر هذا الشعور الفاخر الذي يعتري النفس وهي لا تملك منه شيئًا؟
يكمن السر في الصورة الذهنية التي تغيرت بفعل النظر الذي تغيّر وتحوّل من بدائي إلى متقدم أو مألوف إلى مستجد، تشعر أن المدينة هي بيتك وأن البرج الذي عانق السحاب قطعة أثاث جديدة ازدانت بها صالة بيتك، لابد أن تشعر بالسرور ومزيد من الثقة في الرفاهية والغنى، حتى وأنت تعلم أنك عابر والمنجز ليس من أملاكك، لكنه شعور الانتماء لما حولك، الأمر كذلك حين تصبح بلادك خبرا إيجابيا يتداول في القنوات العالمية، وقد لا تملك قوت يومك لكنك بشعور لا إرادي تزهو وتُسَر، الانتماء للشيء يجعل هذا الشيء جزءا منك مثلما أنت جزء منه.
الوسادة والفراش واللحاف وبصرف النظر عن جودتها أو رداءتها تبقى من أعز حاجاتك كغرام وعشق لكينونتك الخاصة القابعة في أعماق روحك، لكنك قد لا تشعر بنار الشوق والحنين لها إلا حين تغيب عنها أو تفقدها، الأمر كذلك حين تشّبع من المتعة أو تفقد قدرتك المالية وأنت خارج الوطن، الأمان والطمأنينة شعور وإحساس يجعل أمك أجمل وأحسن النساء.
الانتماء لذّة حسّية تقبع في مكامن الروح دون جسد أو شكل مادي محسوس، ليس له كتلة وزن أو طعم أو رائحة فهو في الروح وكأنه الروح ذاتها التي لا يعلم سرها إلا خالقها سبحانه وتعالى، وهو أي الانتماء حاجة الحوائج كلها والتي بدونها لا تعد أنت، أنت، ولا الحاجات حاجات، حين تفقد الانتماء تصبح خارج الحياة وإن بقيت جسدا متكدسا في زحامها.
درجات الانتماء مثل درجات السِلّم إلى أعلى، كلما علوت علت، وكلما علت زادت قوة بصرك واتسعت مساحة رؤيتك وزاد عمق وعيك، تُصبِحَ كالمشكاة فيها نور يضيء ولو لم تمسسه نار، ونورك على نور أهلك ينتشر لينير جوانب حيّك ويتسع للمدينة وينتشر في أرجاء الوطن فيشتعل الوطن نورا وهّاجا يضيء من حوله ليتمدد النور على سائر الأمة.
الانتماء ليس مثالية بل طبيعة وجودية، موجودة في قرار النفس المخلوقة، إنسان كان أو حيوانا أو حتى نباتا، كل شيء ينتمي إلى جنسه، بمعنى أنه ليس في الكتب ولا في البنك ولا في سوط العسكري، بل إن هذه الثلاثة، الكتاب والبنك والسوط، هم أخطر ما واجهه حس وشعور الانتماء في الإنسان، ليس لأن الفكر والمال والنظام من أعمال الشيطان ولكن لأن القوة في هذا الثالوث خطرة جدا في الأثر والتأثير، ثالوث لا يحكم نفسه، أنت من يحكمه، إن حَكمَك ساقك لتحقيق مآربه واسْتُحْضِرَت الصورة في الآية الكريمة {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا } (5) سورة الجمعة.
أنت بالانتماء حاكم وبيدك السلطة فكن حاكما عادلا، ولا يمكن أن تكون كذلك ما لم تفهم قيمة وجودك، وجودك ليس عبثا، وقيمته في مدى النور الذي يضيء منك على من حولك ليتسع ويتسع حتى يغطي مساحة الأرض كلها، النور هو وعيك بقيمة ما تنتمي إليه، لتكون جزءا فاعلا فيه بما يتوجب عليك تجاهه، بإيمان صادق وعمل مخلص، ليصبح الفكر مرتقيا في سموّه والمال رقيّ أخلاق والنظام قوام حال وحماية استقامته وقوته، كن جزءا إيجابيا في كل، بك يشتد عوده ويقوى نوره، هذا وطنك وهذه أمتك فراش ولحاف.