د.فوزية أبو خالد
شاهدت بالطائرة فيلم «نساء صغيرات» المقتبس بدقة فنية وليس دقة «حَرفية» من رواية الكاتبة الأمريكية المبكرة لويز الكوت (1832-1888). وهي رواية أثيرة على نفسي منذ قرأتها لأول مرة وأنا في المدرسة المتوسطة الأولى بشارع المدارس بمدينة جدة، إلا أنني لم أكن لأكتب عنها الآن وقد كتبتُ عنها وقتها في عمودي اليومي «قطرات» بجريدة عكاظ، لولا تلك الفنية الملفتة التي وجدتها في الفلم بما شكل في رأيي ليس مجرد ترجمة أمينة لروح الرواية بل قدم عملاً إبداعيًا موازيًا للجماليات السافرة والسرية في الرواية وللتفاصيل الصغيرة المرئية أو الموحى بها أو المتخفية خلف ريشة هنا وخصلة شعر منفلتة من قبعة هناك أو من شرائط فستان قطني بيتي تلوح على حبل غسيل (فاز الفلم بجائز الأوسكار لتصميم الملابس، (جاكلين دوران).
وقد تجلى ذلك البهاء الفني للفلم على مستويات عدة سينمائية عالية من تقطيع السرد ونفخ الحياة في الكلمات وإعطاء حضورها الصوتي والبصري أدوار بطولة أخاذة ومؤثرة في مسارات الحدث وفي مصائر الأشخاص والمشاهد (سيناريو، سارة بوللي) إلى الموسيقى التصويرية بإيقاعاتها الخفاقة تارة المتسللة تارة أخرى (موسيقى, الكسندر ديسبلا). كما وجدت هذا الحس السينمائي المرهف متجليًا في الكيفية المتعالقة لحركة المكان بين الفضاء البيتي (دار البستان) وبين الفضاءات العامة للفلم (كونكرد، ولاية ماساتشوسس بأمريكا الشمالية), وفي الكيفية المتموجة لتحول الأزمنة وتبدل الفصول. فالزمن في الفلم ليس خطًا تصاعديًا أو تنازليا متراتبًا تراتبًا زمنيًا رتيبًا بل على العكس فإن تموجه يوحي بتلك الريبة المثيرة من تقلبات الوقت, (وإن كان زمن الرواية الفعلي القرن التاسع عشر إبان الحرب الأهلية الأمريكية).
وقد كان مدهشًا، بالنسبة لي كمشاهدة عتيدة للأفلام الروائية والمبنية على الأعمال الأدبية والروائية الفذة منذ النسخة الأولى لفلم «أنى كرنينا», استخدامات الظل والضوء في هذا النسخة من فلم نساء صغيرات والأسلوب الغوائي كقصيدة شعر في تقليب عدسات التصوير بين لحظة صاعقة ولقطة بطيئة وبين لقطة صاخبة ولحظة هادئة وبين لحظات وأمكنة في لقطات ولحظات ليس لها إلا مسمى الأسرار الإلهية التي توضع في بعض مستقر الأمكنة وفي بعض مسرى الأزمنة مثل ما توضع في بعض النفوس فيصير لها قدرات خارقة وإن لم يش مظهرها بامتلاكها لها. يظهر ويتوارى ذلك في تنقل عين الكاميرا من قلب الحدث لهوامشه والعكس من دون تسلسل أو بتسلسل، من لحظة تستبق المستقبل إلى لحظة مقطوفة من أحلامه, ومن لحظة مخطوفة من ماضي بعيد إلى لحظة متلصصة عليها من حاضر متحرك وإن بدا لعين الرائي ماثلاً (التصوير السينمائي، يورك لوسوكس).
وبما أن ليس هدفيًا من الكتابة عن الفلم سرد الحكاية التي شغفني أصلها الروائي وشغف لداتي اللواتي اعرتهن الرواية بالمدرسة ومنهن سميرة أسعد ومشاعل السديري وطريفة محمد وآمال خوجة ونورة القضيبي وسلوى هاشم، بل الإشارة بشكل شفيف ما استطعتُ إلى البهاء السنمائي للفلم الذي يضيف مضمونًا جديدًا أقل تعقيدًا على المضامين الأيدولوجية الجندرية للرواية، فربما يساعدني على إيصال الإحساس المفرط بالتموج الذي تخلقه الصورة في حركة الوقت وفي تحولات المكان واصطدامهما معًا بجدل الثبات والتغير أن استل بعض الأمثلة أو استعير بعض الصور من الفلم. فعلى سبيل المثال تبدي الكاميرا قدرة فائقة الدقة على إظهار ما في الزمن من تنوع وما في نسيجه من تداخل بتقطيعه إلى لحظات خاطفة وإن طالت, تتذرى بين الأمس وغدًا واليوم مشكلة خيطًا سريًا يربطه ببعضه البعض. وهذا في تجربتي مع الفلم يعطي إحساسًا عميقًا للمشاهد بخروج الوقت على إطار اللوحة أو على دائرة الساعة. فمثلاً لو بدأنا من اللقطة الأخيرة في الفلم وهي لقطة مركبة من ثلاث طبقات زمنية مجسدة في المشهد الأخير وطبقة إضافية متروكة لمخيلة المشاهد أو بالأحرى للحظته الزمنية. فاللقطة الأخيرة تتمثل في مشهد التفاوض بين الكاتبة وبين الناشر الذي سبق وكتب معتذرًا عن نشر الرواية من وجهة نظر جيله من القراء قبل أن يقرأ بناته بالصدفة مسودة الرواية ويشغفن بها وفيها زمن الناشر وزمن الكاتبة ورمزه الجيل الشاب من القراء مضاف إليها زمن المُشاهد في الكيفية التي يمكن أن تدار بها اليوم مثل هذه التفاوضات بين المؤسسة الربحية وبين الكاتب الأعزل إلا من مخيلته وجهد الكتابة. أما طبقتها الزمنية الرابعة فهي لحظة حلم البنت الصغيرة في أن تصبح كاتبة في مجتمع أمريكي لم يصل زمنيًا وقتها لمرحلة تقبل أن تملك المرأة جرأة وحق الكتابة وبدى ذلك في توقيعها لنصوص بدايتها الأولى باسم مستعار. الطبقة الزمنية الأخرى من اللقطة الأخيرة تجسدت بشكل رمزي في الكيفية اليدوية التي كانت تصنع بها الكتب والتي وصلتها بلقطة سابقة تجلت فيها بشكل جمالي شاهق صناعة الكتاب من القطرة الأولى لضوء الشمعة وضوء الحبر معًا حيث تقوم الكاتبة الأمريكية جوزفين /لويزالكوت بعمل الكتابة الشاق عبر إطلاق جناحين أو إشعال شمعتين جناح المحبرة وشمعة الضوء والكيفية السمفونية التي تفرش بها صفحات الكتاب على أرض الحجرة، وصولاً إلى الرشفة الأخيرة المتمثلفي خياطة الأيدي العاملة في دار النشر لصفحات الكتاب مع بعضها بعضًا إلى مرحلة مهر عنوان الكتاب على الغلاف. إلا أن المشاهد هنا لا يستطيع إلا أن يتدخل في هذا السياق الزمني مضيفًا إليه طبقة زمنية جديدة تتمثل في الخروج على هذه الصناعة اليدوية الفاتنة للكتاب باللحظة التقنية الراهنة لصناعة الكتاب صناعة إلكترونية رقمية سريعة. فلم يعد من حاجة لتعتيق خمرة الكتب بعرق الأيدي العاملة ولا بالصبر الجميل الطويل.
والحقيقة أنه لم تبهرني في الفلم حركة الكاميرا الزمانية وحسب بل أصابتني بدهشة مربكة حركة الكاميرا في المكان ليتحول المكان إلى طيف من الأمكنة حسب حركة الكاميرا وحسب أجواء الطقس وحسب الحالة الاقتصادية والحالة الوجدانية لسكان المكان. في رأيي فلم نساء صغيرات الأخير معزفة سينمائية لا تستطيع قراءتها بحاسة البصر والسمع وحدهما.
هل تعلمون أن لويز كما كتبت رواية نساء صغيرات، كتبت عملاً آخر بعنوان رجال صغار (إلا أنه لم ينل من الشهرة العالمية ما نالته رواية نساء صغيرات ولذلك بطبيعة الحال أسباب).
بإمكاني أن أكتب خاتمة لهذا المقال إلا أنني لا أجد حاجة لذلك فأتركها لمخيلة القارئ كما لم تفعل مخرجة الفلم الأخير السابع (جريتا جيروج) من رواية «نساء صغيرات».