عادل علي جودة
أبدأ مقالي هذا بتسجيل التحية من أعماق قلبي لمعلمي المرحلة الابتدائية، ولتلاميذها؛ (بنين وبنات)، ولما تتسم به من جدية وحزم في التربية والتعليم والمتابعة، وأجدد وقفتي مع نفسي إبان جلوسي تلميذًا في مقاعد النصف الأول من هذه المرحلة؛ أي الصفوف؛ الأول، الثاني، والثالث، في مدرسة ذكور دير البلح الابتدائية للاجئين، إذ كنت أحمل في صدري رفضاً داخلياً لواجبات النسخ المتكررة التي كان يكلفنا بها معلم اللغة العربية في كل يوم، وقد تعمق هذا الشعور لدي قبيل نهاية الدراسة في الصف الأول الابتدائي حينما كلفنا المعلم بنسخ كتاب القراءة كاملاً أثناء الإجازة السنوية، إذ بدا الأمر كما لو أنه نوع من العقاب دونما ذنب.
لكنني رغم ذلك كنت أبدي اهتماماً كبيراً في كتابتي، ليس هذا فحسب، بل كنت أجد متعة وأنا أروض الحروف فأكتبها على نحو ما أحب، فمثلاً كنت أميل إلى مدِّ ياء آخر الكلمة والعودة بها إلى بدايتها قريباً من الحرف الذي يسبقها، وكذلك الأمر بالنسبة لحرف الألف في أل التعريف، وحرف الكاف في بداية الكلمة أو منتصفها، وحروف أخرى، إلا أن هذه المتعة لم تُبعد عني ذلك الشعور الذي بقي يشكل غصة تسكنني ولا تغادرني.
وفي ذات يوم جاء المعلم لتصحيح واجب النسخ الذي كلفنا به في اليوم السابق، فأبدى إعجابه بخطّي ـ كعادته ـ، لكنه في هذه المرة أبدى إعجابه بحديث موجه لزملائي التلاميذ بقوله: (ما معناه) «انظروا إلى جمال خط أخيكم عادل؛ هكذا يجب أن يكون الاهتمام في الكتابة»، بالطبع اشرأب عنقي نشوة بهذا المديح، ووجدتها فرصة لأن أبوح له بغصتي تلك، فقلت - ما معناه - «يا أستاذ تكرار النسخ يتعب يدي وخطي جميل كما ترى»؛ فغمرني بابتسامته وقال: «خطك جميل يا بُني لأنك تكرر الكتابة، وسيزداد جمالاً مع كل مرة تولي فيها واجب النسخ هذا الاهتمام».
بالطبع - في ذلك الوقت - لم تنل إجابته رضاي، لكونها لم تلب رغبتي، وبالتالي استمرت غصتي داخل صدري. لكنني اليوم وجدتني أرسم ابتسامتي تحية لروح معلم اللغة العربية آنذاك وهو المربي الفاضل الشيخ محمد محمود البحيصي؛ رحمه الله ورضي عنه وأرضاه، ولواجبات النسخ المتكررة التي كان يكلفنا بها، وعلى وجه الخصوص ذاك الواجب المتصل بنسخ كتاب القراءة كاملاً أثناء الإجازة السنوية، وأجدني كذلك أجلل تلك الابتسامة بمعالم اعتذاري إليه؛ إذ ساء خط يدي لأنني ـ وأظنك مثلي قارئي الكريم ـ في ظل ما يعج به العصر من أجهزة (الجوال) و(الآيباد) و(اللابتوب) وغيرها، وما رافقها من تقنية منصات التواصل الاجتماعي، بتنا نعتمد لوحات مفاتيح تلك الأجهزة في كل حرف نكتبه، حتى رسائلنا الشخصية (مكاتيبنا) التي كانت تحمل أشواقنا بين سطورنا وفي ثنايا حروفنا، ابتعدنا عن كتابتها بخط اليد، واستبدلنا احتضان روح القلم وتجليات مداده بطرقات جافة على أزرار جامدة، وشيئاً فشيئاً مع مرور الوقت ارتبك اتزان القلم في أيدينا، واهتزت أشكال الحروف لدينا، فتاهت مهارة الخط منا وساءت.
وهأنذا أهامس شيخي الحبيب؛ أطمئنه أن لا بأس يا أستاذ، فقد عدت أصغي لأمرك بنبرة صوتك التي أشتاق إليها، مكلفاً نفسي بواجبات نسخ متكررة لعلي أسترجع شيئاً من روعة إعجابك الذي لم يزل يسعدني.