وما أحدٌ كان المنايا وراءهُ
ولو عاش أياماً طوالاً بسالم
من سعادة كل إنسان أن يحظى بتوفيق المولى له، بأن يعيش في بيئة علم وأدب تضيئ له دروب الحياة العلمية والاجتماعية من فيض العلوم المفيدة، والآداب الحسنة من أفواه العلماء الأجلاء، ومن بطون أمهات الكتب العلمية؛ كما هي حال الشيخ الفاضل عبدالعزيز الذي أستفاد فائدة كبرى من ملازمة والده الشيخ القاضي محمد بن عبدالعزيز الجنوبي طيلة حياته في حله وترحاله..، الذي ولد عام 1347هـ في حريملاء، ونشأ في كنف والده، وعاش طفولته برعاية والدته وجدته لأمه، حيث كان والده كثيراً ما ينقطع عن حريملاء في بداية حياته العلمية طلباً للعلم في الرياض على عدد من كبار العلماء الأفاضل..، مما أهله لتولي القضاء في بعض الأماكن المتباعدة في الجانب الجنوبي من بلادنا الحبيبة إلى قلوبنا، وقد بدأ الشيخ عبدالعزيز بن محمد تعلم القراءة والكتابة، وتلاوة القرآن الكريم وحفظه على الشيخ المقرئ حمد بن داود في المسجد، وبعدما توفي واصل القراءة على يد الشيخ محمد بن عبدالله الحرقان حتى ختم القرآن كاملاً -رحم الله الجميع-، ومن ذكرياته الجميلة التي كثيراً ما يلهج بحلاوتها، ولم تغب عن ذاكرته مدى عمره..، مرافقته لوالده في مواسم حج عام 1358هـ وهو ما يزال صغيراً في مقتبل عمره..، على المطايا قبل توفر وجود السيارات ووسائل المواصلات، ولقد أجاد الشاعر في وصفها:
بمصطحباتٍ من لصاف وثبره
يزرن (إلالاً)* سيرهن التدافعُ
سماماً تباري الريح خُوصاً عيونها
لهنّ رذايا في الطريق ودائعُ
عليهن شعثٌ عامدون لحجهم
فهن كأطراف الحني خواضعُ
وعند انتقال والده قاضياً في (رنية) بتاريخ 1-7-1355هـ، التي مكث فيها قرابة ثلاث سنوات طلب العلم على يد الشيخ سعد بن مِسْلم، فأعجب بسرعة فهمه وذكائه، ثم طلب العلم على الشيخ عايض بن مفلح من أهالي (تربه) عندما انتقل مع والده إليها قاضياً بها..، وعند عودته إلى حريملاء عام 1362هـ انضم إلى طلاب العلم لدى فضيلة الشيخ عبدالرحمن بن سعد قاضي حريملاء - آنذاك - الذي كان يحث طلابه على الجد والمثابرة في طلب العلم، وحفظ المتون المعروفة: مثل كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العباد، وكتاب كشف الشبهات، ومتن العقيدة الواسطية، وغيرها من المتون..، وفي تلك الفترة تولى إمامة مسجد «قراشة» الأثري بحريملاء وعمره دون السابعة عشرة عاماً لما يتمتع به من الاعتدال والاستقامة، وكانت بداية عمله عند تولي والده للقضاء في (تثليث) عام 1364هـ بوظيفة كاتب، ثم على وظيفة كاتب ضبط في العام نفسه، وبعد الانتقال إلى نجران في عام 1368هـ شغل وظيفة كاتب عدل حتى الانتقال إلى (سبت العلايا) في عام 1378هـ، وأخيراً إلى المجمعة في عام 1392هـ، واستمر حتى تقاعد عام 1407هـ تاركاً أثراً طيباً وذكراً حسناً، كما قام بمهام الملازم القضائي لوالده كون الشيخ محمد كفيف البصر، فعوضه الله نفاذ البصيرة، ولله در الشاعر الأستاذ علي الجندي القائل:
فرب ضرير قاد جيلاً إلى العلا
وقائده في السير عود من الشجرْ
وكم من كفيف في الزمان مشهر
لياليه اوضاحٌ وايامه غررْ
وكان الشيخ عبدالعزيز يطّلع على القضايا ويراجع مع والده أصول الكتب في الفقه والقضاء..، وقد صدر الأمر بتعيينه قاضياً في مدينة (تنومه) في عام 1389هـ، وقد بذل الجهد الكبير في طلب إعفائه عن القضاء تورعاً فتم له ذلك..، وقد انتقل إلى رحمة الله يوم الاثنين 15-11-1441هـ، بعد حياة حافلة بالإخلاص في أعماله كلها، وخدمة والده طيلة حياته -رحمهم الله رحمةً واسعة- ولنا معه ومع والده ذكريات جميلة لا تغيب عن خاطري فوالده من محبي والدنا الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف، يزورنا في منزلنا إذا حضر إلى حريملاء، ويبادل بالرسائل الودية إذا غاب، وقد خلف ذرية صالحة بنين وبنات وذكراً حسناً مُختتماً هذا المقال بهذا البيت:
يا غائبا في الثرى تبلى محاسنه
الله يُوليك غفراناً وإحساناً
تغمد الله الفقيد بواسع رحمته ومغفرته وألهم أخاه علي وأبناءه وبناته وعقيلته ومحبيه، وأسرة آل جنوبي الصبر والسلوان.
(إلالاً) جبل في عرفات
** **
عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف - حريملاء