سام الغُباري
قبل ساعات انقضت ذكرى اليوم الذي تزوجت فيه، 15 عامًا مرقت كالسهم مخترقًا زمنًا لم تعد تفاصيله مثيرة حد الاشتهاء، كل شيء تكوّن في ظل هذه الرحلة الزوجية أفضى إلى حياتي طفلين هما بضعة مني، وأمهما مهجة القلب. كنت واحدًا، وصرنا اثنين، ثم أربعة.
عدي يشبهني، قصي يشبهني أيضاً، كأن طباعي انقسمت بينهما بالتساوي، أراهما يتسامقان وعيًا وأدبًا، فأفرح لهما، ونتسابق معًا في قياس طول أحدهما، ويصيح جذلًا: لقد سبقت يا أبي! وقد كُنت طويل العائلة كلها، وها أنا أبلغ الأربعين بانخفاض في قياس مثير للحيرة.
منذ الثلاثين دخلت حياتي عام الفتنة الكبرى في 2011، وها هي عشرة أعوام تمضي بي، نصفها في اليمن، ونصفها في البعيد، متسائلًا على أعتاب غزو الشعرات البيض عمّا حدث؟
وأتذكر العُرس..
جدّي كان هناك، بسمرته العجيبة، وقامته المهيبة، حاملًا بندقيتين جديدتين لي وأخي، هدية العرس، وفوقهما باقة من عطور نادرة، وقد نثرت ربيع روائحها في شوارع مدينتي، كنت مندهشًا من انغماسي في العطر والحب، شيء كالحلم لم أعهده، واستحليته.
وأتذكر العُرس..
كانت أمي هناك، تجلس كملكة على عرش زواج أول عيالها، تُحضّر تفاصيل الزفاف، وقد كان ذلك الرداء الذي اختارته مع أبي بدقة، جزء من روح القبيلة التي نمثّلها في عاصفة المدنية ورياحها وتنوّعها، وخرجنا يوم الزفاف مشتعلين بالبهاء، وكان المنشد يحلّق حولنا كنحلة، ويرقص عمّي كأفضل رجل تستميله قرعات الطبل وهدير المزمار، ينثني وينحني ويدور ونصل جنبيته يلمع في الهواء مثل محارب أغريقي في مساحة واسعة أحيطت بالمتفرجين المبتسمين.
وأتذكّر جدتي وعمي سعد، وأبي إسماعيل وخالي حسن، وأمي فاطمة، وعمتي جرادية، وأمي عزية، وأمي هاجر، وكل النسوة الطيِّبات برائحة الياسمين والشذاب، بأرديتهن المزركشة، أتذكّرهم وأتذكرهن وقد رحلوا تباعًا.. كأنهم انتظروا عرسي لإغلاق آخر مهامهم المعلقة على جدول الوفاة المنتظر.
وأتذكر بلادي
وأصدقائي..
وجه شقيقاتي، وقد أنبتن أطفالًا متشابهين، كأنهن اتفقن على أزواجهن بصهر جيناتهن في ملامح القادمين الصغار.
كنت صديقًا للكثير، وكنت صحافيًا جيدًا، مثابرًا.. لكن ذلك لم يكن كافيًا للعيش سالمًا في المدينة التي أخرجتني إليها ومنها، غير أني وسط ظلام الارتحال اهتدي بشعاع الحب، كل عام، وفي كل ذكرى زواج تمر أمامي انتهي إلى إشعال شمعة جديدة على قالب حلوى مزدهر بالألوان والفاكهة، استعيد عُرسًا في أرض بعيدة رعتني بأمانها وأمنها، وجعلتني سعيدًا رغم غياب أولئك الذين أحببتهم بصدق ووفاء.
غير أن حبيبتي هنا.. وهذا يكفي.
وإلى لقاء يتجدد