عبدالرحمن الحبيب
كتاب توماس بيكيتي الأول صنَّفته الجاردين من أهم كتب القرن في الاقتصاد السياسي، لكنها اعتبرت كتابه الحالي «أفكار مجردة وغير قابلة للتطبيق».. وإذا كانت الصحافة الفرنسية أطلقت عليه «الجرَّافة السياسية والنظرية»، وقالت عنه الإكونوميست البريطانية: «طفرة حديثة في عدم المساواة حازت على تساءل جديد من الاقتصاديين، كما فعل ماركس وريكاردو..»، فإنه بعد كتابه الجديد نال من التعجب أكثر من الإعجاب..
الكتاب الجديد هو «رأس المال والأيديولوجيا» (تم عرضه بالمقال السابق)، يقدم خطوطاً عريضة لنظرية عدم المساواة الاقتصادية باعتبارها ظاهرة سياسية نتجت بسبب صعود أيديولوجية «الملكية الجديدة». فالتغيير المؤسسي يعكس الأيديولوجية المهيمنة على المجتمع: «عدم المساواة ليس اقتصاديًا ولا تكنولوجيًا. إنها أيديولوجية وسياسية»، مختلفاً عمن يعزو عدم المساواة بشكل رئيسي إلى القوى غير القابلة للتحكم كالتكنولوجيا وأنماط الإنتاج والعولمة..
هنا عرض مختصر لثلاثة مقالات من أهم المفكرين الاقتصاديين حول الكتاب. البروفيسور آرفند سبرامانيان (جامعة هارفرد) اعتبره أجندة راديكالية لكبح عدم المساواة.. ويرى أن أكثر أجزاء الكتاب جرأة وخيالاً هو اقتراحه بحصول كل مواطن، عند بلوغه سن الخامسة والعشرين، على هبة رأسمالية تبلغ 60 % من متوسط الثروة بالمجتمع ليتم استثمارها حسب اختيارهم، يتم تمويلها بالضرائب التصاعدية على الثروة والدخل والميراث.. لتصل الضرائب على الميراث إلى 90 %؛ مما يعني تداول رأس المال ومنع التراكم المفرط للثروة وإلغاء الملكية الخاصة الدائمة.
ويتساءل سبرامانيان: ألا يتجاهل بيكيتي لما يسميه الاقتصاديون «آثار حجم الفطيرة»، ألن تكون إعادة التوزيع الهائلة التي يدافع عنها ضارة جدًا بالحوافز وريادة الأعمال وتراكم رأس المال بحيث تترك فطيرة صغيرة لإعادة التوزيع؟ ويستنتج سبرامانيان أن عدم اهتمام بيكيتي بهذه المشكلة يبدو متعمداً ومزعجًا؛ لدرجة أن المرء يشك بأنه يريد تصحيح الخلل، مكرساً جهده لانتقاد النيوليبرالية دون حلول عملية.
العيب الأكثر خطورة برأي سبرامانيان هو أنه رغم محاولة بيكيتي المثيرة للإعجاب لتحليل الوضع العالمي، فإنه بمعنى ما يشوه التاريخ، جاعلاً فترة ما بعد 1980 عصراً مظلماً لعدم المساواة الاقتصادية؛ لكن بالنسبة للمواطنين العاديين بالصين والهند وعشرات البلدان الأخرى خارج الغرب، كان عصراً ذهبياً، فمستويات المعيشة ارتفعت سريعاً. لقد تقدمت دول كسنغافورة وكوريا الجنوبية، ثم الصين والهند، ومؤخراً بنجلاديش وفيتنام، بسرعة لأن الأسواق العالمية المفتوحة سمحت لها بالتصدير. هذا يضع الاقتصاديين الغربيين الليبراليين بمأزق؛ فإذا كانت العولمة تحصل أحياناً على وظيفة من رجل أبيض ليس لديه شهادة جامعية وتعطيها لنظيره الأكثر تعليماً في الشرق، فمع من يقف الليبراليون الغربيون؟ لا يتناول بيكيتي مثل هذه الأسئلة غير المريحة. إلا أن سبرامانيان يختم نقده بأنه رغم هذه العيوب، فإن التضمين الكبير للكتاب لتاريخ عدم المساواة ووصفه الجريء يجعله إضافة مبهرة إلى قائمة الأعمال الرئيسية للتاريخ الاقتصادي والتنمية (فورين أفيرز).
أما بول كروغمان الحائز على نوبل بالاقتصاد، فيرى بداية أن حجم الكتاب لأكثر من ألف صفحة ليس خطأً، لكنه يعكس في جزء منه نقص التركيز. يقدم الكتاب تاريخ العالم منظوراً إليه عبر عدسة عدم المساواة، باحثاً في المجتمع الفرنسي، لكنه يمتد بعيدًا جدًا، يخبرنا عن كل شيء بدءًا من تكوين مجالس الشركات السويدية الحديثة إلى دور البراهمة في مملكة بودوكوتاي الهندوسية قبل الاستعمار. تتخلل نقاشه العديد من الرسوم البيانية والجداول، مازجاً ببن الاستقراء والتخمين. ورغم النتائج المهمة التي نحصل عليها، فإن المساحة الهائلة التي تغطيها تثير تساؤلين محرجين.
الأول هل بيكيتي دليل موثوق لتغطية هذا الاتساع الهائل في التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع والتحليل السياسي والبيانات الاقتصادية لعشرات المجتمعات لا سيما أن أعمالا كلاسيكية أساسية في بعض المجالات لم يرجع إليها!؟ الثاني هو أن تراكم الحالات لا يعزز بالفعل التحليل الأساسي لبيكيتي؛ ففي كل مرة يدخل مجتمع آخر إلى الموضوع تتوالد القصص كسلسلة من الاستطرادات بدلاً من البناء التراكمي للحجة.
ويخلص كروغمان: «لقد أردت حقًا أن أحب «رأس المال والأيديولوجيا»، لكن يجب أن أعترف بأن هذا شيء مخيب. هناك أفكار وتحليلات مثيرة للاهتمام منتشرة بالكتاب، لكنها تضيع في الحجم الهائل من المواد ذات الصلة المشكوك فيها. بالنهاية، لست متأكدًا حتى من ماهية رسالة الكتاب. هذا لا يمكن أن يكون شيئاً جيدا». (نيويورك تايمز).
أما بروفيسور المالية في جامعة شيكاغو راغورام راجان فقد كان حاسماً في مقال تفنيدي معتبراً أن الكتاب معرفة بدون حلول.. وبيانات ثرية لكنها متصدعة.. ذاكرا بتهكم «إذا كان عدم المساواة ينبع بالمقام الأول من الأيديولوجية، فكل ما يتعين على المصلح أن يفعله هو تغيير الأيديولوجية السائدة.» معتبراً أن هذا العمل الأخير سيقنع القليل خارج أتباعه المخلصين (فاينينشال تايمز).
الخلاصة أن الكتاب يثير التساؤلات أكثر من الأجوبة، ذلك أن حلوله تبدو لغالبية المحللين غير عملية، لكن لا ننسى أن الحملات الرئاسية الأمريكية للسناتور بيرني ساندرز، وبعض الديمقراطيين الأمريكان ومعه اليسار الأوروبي لديهم أطروحات مشابهة، مما يجعل رؤية بيكيتي ليست بعيدة عن الإدراك السياسي كما يرى منتقدوه. بكل الأحوال فإن الإتقان المنهجي للصياغة الجديدة لتساؤلاته هي بحد ذاتها إنجاز ضخم..