محمد سليمان العنقري
قبل أيام نُشر خبر عن توصية لجنة الحج والإسكان في مجلس الشورى الموقر لوزارة الإسكان بالتنسيق مع مؤسسة النقد العربي السعودي لدراسة إلغاء الدفعة المقدَّمة التي تلزم البنوك بها المستفيد قبل استلام القرض المدعوم. وبررت اللجنة توصيتها - بحسب التقرير الذي قدمته - بأن كثيرًا من المواطنين يشتكون من الدفعة الأولى التي يتوجب عليهم دفعها للبنوك أو الجهات التمويلية، التي تصل إلى (10 %) من قيمة القرض.
وتمثل هذه التوصية في حال أخذت مسارها للإقرار من قِبل المجلس مساهمة لحلول التمويل لطالبي تملك السكن، وخصوصًا مع التوسع غير المسبوق في حجم القروض العقارية للأفراد الذي ينمو بنسب كبيرة بعد جملة الحلول التمويلية التي قدمتها وزارة الإسكان وصندوق التنمية العقاري، وأيضًا مؤسسة النقد عبر مبادرات عدة، منها تخفيض الدفعة المقدمة من قرابة 30 في المئة عند بداية إقرار نظام التمويل والرهن العقاري لتكون بالنسبة الحالية عند 10 في المئة.
لكن هل فعلاً إلغاء هذه النسبة سيكون عاملاً مساهمًا في زيادة تملُّك السكن دون وقوع إشكاليات أخرى في سوق التمويل، وكذلك في قيمة الأصول؟ فالنسبة أساسًا خُفضت - كما هو معروف - لما هي عليه حاليًا. وكما كان هناك شكوى من ارتفاعها بالماضي تتكرر الشكوى ذاتها من النسبة الحالية المنخفضة إلى إلغائها تمامًا. فإذا أسهم هذا الإلغاء في حلول لبعض الحالات فما هي الحلول مستقبلاً لمن سينظرون إلى أن إلغاء الدفعة المقدمة لم يسهم بمساعدتهم على تملك السكن؟ فماذا ستكون المطالب وقتها؟! فمن المهم النظر للحلول من زوايا مختلفة، تحقق المصلحة العامة، ولا تحل مشكلة، وتُنتج مشاكل أكبر في المستقبل. فنسبة عشرة في المئة هي من الأقل عالميًّا؛ فكثير من الدول لا تقل فيها تلك الدفعة عن ثلاثين في المئة، ومبدأ اعتماد الدفعة المقدمة هو لتقليل المخاطر على النظام المالي، وإظهار جدية العميل، والتزامه، وتخفيف الأعباء المالية عليه التي سيلتزم بها لسداد القرض السكني في وقت أقصر نسبيًّا، وبتكاليف ونسبة من دخله، لا ترهقه. فإلغاء الدفعة المقدمة قد يحل الإشكالية للعميل في البداية، لكن هذا المبلغ ستترتب عليه خدمة ديون، وسيسدده مستقبلاً؛ وبذلك ترتفع قيمة المنزل عليه؛ وتطول سنوات السداد؛ وبذلك لا يكون قد حقق مصلحة حقيقية لنفسه؛ لأن ذلك سيمثل عبئًا عليه في بقية الالتزامات المعيشية. ومن المهم أيضًا النظر للنظام المالي، وعدم تعريضه لأي مخاطر ائتمانية؛ فالأموال التي يتم الإقراض منها هي أموال المودعين، أي المجتمع بأكمله؛ ولذلك لا بد من التوازن في تنظيم سوق التمويل.. إلا أنه في المقابل لا بد من المساعدة على إيجاد حلول من نوع آخر بعيدًا عن أسلوب التمويل التقليدي من خلال مساهمة لجنة الحج والإسكان في دعم جهود وزارة الإسكان وأي جهة ذات علاقة بملف الإسكان في تيسير الحلول الرائجة عالميًّا من خلال الادخار السكني عبر الجمعيات السكنية والمشاريع المشابهة لها؛ وهو ما يسهم بسهولة في تملك السكن دون إرهاق للمستفيد، وينعكس إيجابًا على الاقتصاد الوطني بدعم النمو، وكذلك يحفز على ثقافة الادخار، إضافة لدعم المنتجات التمويلية التي تيسر وصول الأموال لأطراف السوق لزيادة العرض بالمنتجات السكنية وتنوعها بما يخدم الشرائح كافة بحسب دخلها؛ إذ يمكن دعم خيارات تسهم أيضًا في تخفيض تكاليف إنشاء الوحدات السكنية، وهو عامل مهم جدًّا في تلبية طلب الكثير من الشائح حسب دخلها وعدد أفراد الأسرة. فحلول الإسكان كثيرة، ولا تقتصر على معالجة آليات وقواعد التمويل. فلا بد من التطرق للتفاصيل كافة حتى تكون المعالجة مستدامة، وتحوِّل القطاع لصناعة رافدة للتنمية بالاقتصاد الوطني بعيدًا عن الحلول الجزئية.
السهولة الكبيرة بسوق للتمويل سلاح ذو حدين. والعالم ما زال يستذكر الأزمة المالية العالمية عام 2008م، أي قبل اثني عشر عامًا، بل لم يتخلص من دفع ثمنها. وهي أساسها ومنشؤها الرهون العقارية، والتوسع المفرط في التمويل الذي انعكس بمخاطر عالية، أدت إلى أزمة غير مسبوقة بحجمها، وضخمت من قيمة العقارات، وكانت الانهيارات مكلفة جدًّا بالنظام المالي، ودفع العالم ثمن ذلك أكثر من 9 تريليونات دولار حتى يعالج أضرارها، ويستوعب تداعياتها.