د. جمال الراوي
كان للوالد -رحمه الله وأحسن مثواه- دينٌ على أحدهم، مضى عليه زمنٌ طويل، ولم يردّه له، ولم يكن المَدين مُعسرِاً، ويبدو أنّه كان يماطل في إيفائه، والوالد يخجل من مطالبته، ولم يجد من وسيلة سوى إرسالي إليه، أطالبه به ... وكان موقفًا عصيبًا ارتعش له جسمي الصغير والنحيل، وقد تخيّلت هذا الموقف الرهيب والمهيب، وأنا أقف في مواجهة هذا الرجل -رحمه الله- فاستجمعت كلّ ما لدي من قوّة ضئيلة، إذ لا خيار أمامي سوى إنفاذ أمر الوالد!
ولا يمكن أنْ أنسى، هذا الموقف، وقد طرقت باب دار هذا الرجل، ويداي ترتعشان، ولا أعرف، حتى اليوم، كيف سمع ابنه طرقاتي الخفيفة، فأطلّ برأسه من الباب، وهو ينظر إليّ بازدراء واستهزاء، فقال: (ماذا تريد ...؟ لقد أزعجتنا)؛ فسألته إنْ كان أبوه موجودًا، فنظر إليّ مرّة أخرى باستنكار واستغراب، وهو يسألني عن سبب سؤالي، وقد تمنيّت لو يردّ بأنّ أباه خارج البيت؛ لكنّ أباه أفسد عليّ أمنياتي، وإذا به يأتي مُسرعًا إلى الباب؛ يسأل عن هذا الطارق المُزعج!
لا أدري ماذا قلت للرجل، لا أتذكر سوى كلمات التوبيخ والتقريع، وهو يقول بأنّنا قومٌ غير محترمين، لا نصبر على فترة انقضاء مُهلة الدين، وأنه نادمٌ أشدّ الندم، لأنّه استدان هذا المبلغ من والدي!... وأعتقد أنّه كان يقول بأننا بدون مروءة ولا أخلاق، وأنّنا ... وقد كان عمري لا يتجاوز السبعة الأعوام؛ لكنني عرفت في كلماته؛ قساوتها وبشاعتها، وأدرك عقلي الصغير بأنّني أمام مأزق خطير، لم أستطع مجابهته سوى بالسكوت والإطراق خجلًا مما نالنا من توبيخ وإهانة! فرجعت وقد امتلأت نفسي خيبة وخزياً!
أمّا العودة إلى البيت، فكانت مأزقًا آخر، وقد بدأ عقلي الصغير يفكّر في الطريقة للخروج منه، وأدركت بأنّه موقفٌ أصعب من الأول؛ لكنّني عرفت بأنْ لا خلاص سوى عدم ذكر ما قاله هذا الرجل في حقّنا، وعرفت، رغم محاكمتي العقليّة الضعيفة، أنّه كلامٌ لا يجوز نقله وذكره، لأنّه سوف يثير عاصفة وفتنة لا داعي لها ... واستجمعت أمري، وهداني الله إلى القول للوالد بأنّ الرجل سوف يردّ الدين في أقرب فرصة!
مضت أسابيع، وإذا بهذا الرجل يلتقي بالوالد، على غير ميعاد، وكُنت شاهدًا على ذلك، وبدأت، حينها، دقّات قلبي تزداد، وشعرت بأنّ الدم قد تجمّد في عروقي، ولا حراك له؛ لأنّي خشيت أنْ أرى ثورة من السباب والشتائم المتبادلة، وأنّ عراكًا سوف يبدأ!... وإذا بظنوني لا تصْدُق، وإذا بهما يبتسمان لبعضيهما، وكلمات الترحيب والتهليل والسؤال عن الحال لا تتوقّف، فدنوت أكثر، وخاطر الديْنِ والمطالبة به، لا يغيب عن بالي، وإذا بي أفاجأ، مرّة أخرى، بأنّهما لم يأتيا على ذكره، وقد خَجل كلّ واحد من الآخر، وانصرفا دون الحديث عنه!
لا أدري ماذا حدث للدين بعد ذلك؟! وقد مضى بي العمر، لأعرف حقيقة غائبة عني، بأنّنا نحن الكبار لا نُعيْر اهتمامًا لمشاعر الطفولة، ولا نعرف بأنّ الأطفال يتألمون ويشعرون بالخزي والمهانة مثلهم مثل الكبار؛ لأنّهم يحملون نفوسًا صافيّة وعذبة ورقيقة؛ ليس فيها غلٌّ ولا حسد، وأنّهم لا يعرفون المداورة والكذب مثل الكبار!... وأنّنا، كثيرًا، ما ننْحر هذه الطفولة البريئة، وندنسّها بصفاتنا وأخلاقنا، لنترك فيها أخاديد قاسيّة لا تندمل مع مرور الأيام!
نعم؛ عالمنا عالم الكبار، وأنّنا نحن من ندنّس هذه الطفولة البريئة، التي لا نُقدّر مشاعرها، ولا ندرك أنّ للطفولة مشاعر قائمة على الفطرة السليمة التي وضعها الله، سبحانه وتعالى، فيهم، بينما نحن من نحرف مسارها... ولا ندرك بأنّ للأطفال طبيعة مختلفة، وغير مبنية على المداورة، وأنّنا قد نستغل طفولتهم، ونستعملها لغايات غير سليمة.
انظر إلى الأطفال الشحاذين والمتسوّلين، في الطرقات وعند الإشارات الضوئية، وتمعّن في وجوههم جيدًا، وهم يستجدون المارّة وسائقي السيّارات، ويمدون أيديهم باستعطاف غريب ومثير، واذهب بمخيلتك بعيدًا، لتتصوّر حال الوالدين اللذين دفعا بهؤلاء الأطفال لامتهان هذه المهنة الرخيصة والبائسة، وهما يجلسان في البيت، ينتظرانهم ليعدّا الغلّة التي جلبوها لهم، وامضِ أكثر في مخيلتك لترى مستقبل هؤلاء الأطفال، وقد أصبحوا قنابل موقوتة، وبؤرًا للفساد والجريمة في المجتمعات!
ولا تذهب بمخيّلتك بعيدًا، وارجع إلى البيوت غير المطمئنّة، والتي تتعالى فيها أصوات الوالدين، وتخرج منهما كلمات الردح والقذف، لتصل إلى أسماع أطفالهما القابعين في إحدى زوايا البيت، وقد أصابهم الخوف والهلع، وهم يرون أبويهما يتراشقان بأبشع الكلمات، والتي تقرع أذان الطفولة البريئة، والتي لا تخدش حياءهم فحسب، وإنّما توتّر أعصابهم، وتدفع قلوبهم الضعيفة لتخفق بشدّة؛ فتقرع جُدر صدورهم حتى تكاد تنخلع منه!
انْظر إلى مجالس الكبار، وقد اندسّ بينهم الأطفال، أو تجدهم يخرجون ويدخلون عليهم، والكبار غير عابئين بوجودهم، ولا يعيرون لذلك أيْ اهتمام، ولا يعرفون بأنّ الأطفال يسترقون النظر إليهم، ويسمعون كلامهم، ويتفاعلون ويرتكسون لقهقهتهم وضحكهم ومزاحهم، ويتعلّمون من الكبار؛ طريقة كلامهم وعبثهم ولهوهم... وما إنْ يختلي هؤلاء الأطفال مع بعضهم؛ حتى يحاولوا تقليد ما تعلموه من الكبار، وهو، في مجمله، هَزْلٌ؛ لا يُضيف لحياتهم سوى مزيد من الاستهتار والتَفْرِيط.
معظمنا؛ لا نفهم مشاعر الطفولة، ولا ندرك بأنّهم يملكون أحاسيس وعواطف، وأنّهم يحملون أنفسًا، في طور البناء والتعلّم، وأنّنا نضع لبِنَاتِها بأنفسنا، وقد ننسى أنْ نرعى هذه اللبِنَات أو بعضها، فيكبر هذا البناء أمام أعيننا، لنكتشف، لاحقًا، عيوبًا كبيرة فيه، وقد يتداعى وينهار أمام أيّة عاصفة بسيطة، أو تجده وقد امتلأ بالخروق والثقوب؛ تتسرّب إليه مياه الفساد والانحراف ... وقد صدق «جبران خليل جبران» بقوله: (أنْتم الأقْوَاس، وأوْلادُكم سِهامٌ حيّة؛ قد رَمت بها الحياة عنْ أقواسكم)؛ ولا شكّ بأنّ الله، سبحانه وتعالى، هو من وضعهم تحت رعايتنا، وأوكل لنا مهمّة العناية والاهتمام بهم، وليست الحياة كما يقول!... وليعرف أحدنا أينْ يضع هذه السهام، وليضعْ نُصب عينيه؛ الهدف الذي يريد أنْ يُصيب به هذه السهام.