حسن اليمني
من طبيعة الأشياء أن تتغيَّر طبائع المجتمعات حسب تغيّر الظروف والأحوال زماناً ومكاناً، المال والاقتصاد أقوى أدوات التغيير، وحين تتغيَّر الطبائع بين الناس تتغيَّر القيم والأعراف والتقاليد.
من كان تاريخ ميلاده اليوم الأول من شهر رجب فهو لا شك يرى ويحس بهذا التغيّر والتبدّل، فقد كانت السكك أو الشوارع الطينية الضيِّقة بمثابة حوش مشترك لمجموعة البيوت الطينية على جانبيه، البنات والصبيان يلعبون ويلهون فيه دون تكلّف وتزيّف، وتفرش به السجاجيد ومساند الظهر المحشوة بالتبن في الأعراس بعد أن ترش السكة أو الشارع بالماء لتخميد التراب وتعلَّق أسلاك كهربائية للإضاءة بينما يجهَّز مكان ليس ببعيد موقد نار للقهوة والشاي ومن بعده تنحر الخراف أو الجمل ويوضع بقدر كبير فوق كومة من الحطب والبسمة والسرور والبهجة تزهى وجوه الجميع، وحتى صلاة الجنازة في مسجد الحي الطيني والذي يلتم فيه الجميع للعزاء، بمعنى أن الحي قصر مكتمل الخدمات يجمع الأسر في حضنه، حياة اجتماعية لا أقول إنها مثالية الوئام لكنها عبقة الأثر في النفس، والفارق بينه وبين حي اليوم لا يستوي في المقارنة.
لن تعود الساعة للوراء ولا أحد يريد العودة للخلف وقد لمس السعة والرحابة والوفرة والرفاهية، لكن تلك الألفة وذاك التناغم والتحاب والود في التواضع والسماحة الرحبة والتعاضد والتكاتف كعرف وتقليد حاكم لطبيعة الفرد مع من حوله لا شك أنها ما زالت عزيزة ومرغوبة، نريد أن نعود إليها أو تعود لنا أو نلتقي في منتصف الطريق معها، اكتسحتنا الجُدُر الخرسانية وباعدتنا سعة العمران، أوحش أرواحنا صمت السكك والشوارع التي احتلتها مركبات تزمر وتشخر، أوجعنا التباعد والتجهم المستوحش الذي حلَّ محل تلك الابتسامات البريئة المتحذلقة، تسربل صور الأحياء القديمة وحياتها في مخيلة أحيائنا وحياتنا الجديدة لم تعد تساوي أكثر من أن تكون ذكريات نستأنسها ولا نريد عودتها، الأهم هو مضمون الإنسان وما طرأ عليه من تغيّر، وهل كان جيداً ثم ساء أم كان سيئاً ثم تجود؟
لا شك كلاهما جيد وما اختلف إلا الظروف بمعطياتها والنتائج دائماً تكون حسب المعطيات، وفي ظني أننا يمكن أن نصنع بعض المعطيات الجديدة من خلال دمج الملامح الجديدة مع عبق النفوس الأثيرة، كما يفعل مهندسو الكيمياء في مختبراتهم من خلال دمج بعض العناصر لخلق أو صنع عنصر جديد، والأمر ليس بذلك التعقيد، ونتيجته في ما يبدو لي ستكون أكثر من رائعة، الفكرة ليست جديدة، بل قديمة وأستدعي لها مراراً وتكراراً لكن يبدو أن هناك صعوبات أو ملاحظات تأخر أو ترجح الأفضل.
نأخذ الرياض مثالاً، مدينة كبيرة مترامية الأطراف ماذا لو قسّمت إلى اثنتي عشر ضاحية، على سبيل المثال ضاحية وادي حنيفة، ضاحية وادي لبن، ضاحية النسيم، ضاحية العليا ... وهكذا بحيث يكون حدود كل ضاحية طرقاً رئيسية تفصلها عن الضاحية الأخرى ثم تقسم الضاحية الواحدة إلى مربعات، ومثال ذلك ضاحية الملز مربع رقم 3 شارع كذا منزل رقم 5، يصبح الاستدلال على الشارع سهلاً جداً حين حصر في مربع معلوم من ضاحية معلومة، كل مربع في الضاحية به مدارسة وحديقته ومركز تجاري واحد يشمل جميع حاجات سكان الحي من تموين وخدمات، بما في ذلك عيادة الأسرة الصحية، وأما خدمات الشرطة والمرور والإطفاء وفروع البلدية وغيرها من الأجهزة الحكومية الخدمية فتتوزع على مربعات الضاحية ويترأس الضاحية موظف تابع لإمارة المدينة يرأس رؤساء أو عُمَد المربع.
من الناحية الأمنية أصبح الضبط أقوى وأسهل وأسرع، ومن الناحية الصحية أصبح أكثر ضبطاً ودقة وأسهل في الرقابة والمتابعة والحصر، ومن الناحية المرورية وخدمة السير أصبح أكثر ضبطاً وتقيداً وانتظاماً، من الناحية الاجتماعية أصبح أكثر حصراً وتجانساً من حيث المعاملة والسلوك ما يبعث ويحفز الروح الاجتماعية والتقارب ويخلق مزيداً من علو الخلق والسلوك نظراً لحصرية السكان والتقائهم تحت عنوان واحد، وفي هذا شيء من عبق الأحياء القديمة من ناحية الألفة والمودة، ومن كل ناحية من نواحي الحياة سنرى ما هو أفضل، فالصورة الكلية ستظهر المدينة الكبيرة كدوائر متداخلة حتى تصل الفرد في بيت أسرته كنواة لدائرة داخل دائرة أكبر وهكذا حتى نرى اليوم الذي تتنافس فيه الضواحي في مسابقات أجمل ضاحية وأفضل ضاحية وهكذا، الأمر ليس بتلك الصعوبة ولا يحتاج إلا لقرار فقط ليبدأ إعادة ترتيب الأحياء وتنظيمها وتكثيف نظافتها وتشجيرها وتحضر سلوك تعاملاتها وترقي الوعي والتجانس بين الناس وإيجابيات أكثر من رائعة ولكن.