د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
يمثل الفكر رافداً مهماً لتحقيق انسيابية حياة الإنسان ونواتج الأعمال الصحيحة. كما أن حدود المسؤولية ومتطلباتها يتصدّرها الفكر الداعم؛ فإذا ما رُسمت الحدود بإتقان فإنّ المؤسسات وقياداتها تصبح في مأمن من الانزلاق في فوضى النتائج.
ومما استوقفني لطرح هذه القضية المؤثرة في بناء المؤسسات، ونهضة المجتمعات، هو أنّ أعجز المواقف في الخطاب التنظيمي هو عندما نرصد الحلول للمشكلات، ولا نحدد جوانب المسؤولية بدقة فيها. كما أن الإيغال في أهمية وجود الفكر الاستباقي في رسم الموقف التطويري, وتأطير مكوناته, وارتباطه الدقيق بالواقع سلباً أو إيجاباً، أصبح حديث الناس في مؤسسات العمل المختلفة, ودار الحديث حول ندرة الفكر, أو انعدامه, وأنه لا يوجد من يمكن أن يوضع موضع المسؤولية؛ فانعكست تلك الصورة الذهنية على فكر المؤسسات وواقعها.
والواقع الحضاري اليوم يثبت أن النتائج العظيمة تبدأ بالفكر الاستثنائي. وحتماً حينما تكون العقول مليئة فلن يكون هناك منفذ للزلل بتوفيق من الله. كما تروي حكايات الفشل، أو لعله عدم الوصول إلى بوابات الحياة، أن هناك عُزلة من قِبل مَن تقلدوا المسؤوليات عن الفكر المساند معرفة ورؤية, وترصد الحكايات أيضاً أن الانغلاق عن الاستفادة من ذوي العقول والأفهام, ورؤيتهم بعين رمداء، حُسبت دليل تأخر وتخلف:
وفي رؤيتي المتواضعة أن المؤسسات حين تستقطب ذوي الفكر يلزمها أن تشاركهم فيما يجب أن تفعل، لا أن تملي عليهم ما يفعلون فحسب. وفي تلك الأجواء أجزم أنه ليس هناك من مبدأ للإتمام, أو تواصل الجهود, وإعلاء الأبنية.
وقد تنجح بعض المؤسسات في استرفاد الفكر المتوازن الممتلئ بهدف النهوض بمسؤوليات المكان. والفارق أن تلك المؤسسات كانت تستثمر في ذوي الفكر, ولا تستثمر منهم. ويظهر الاستثمار من خلال نجاح الأعمال, وتحويل الرؤى الجميلة, ونواتج الفكر إلى نتائج نافعة.
إن النهوض بالمسؤولية قدرة حافزة على التحول، وامتلاك القرار. والفكر الوارف مفتتح التحول, وهو أيضاً وسيلة للدخول إلى أعماق المسؤول إذا ما كانت بواباته مفتوحة، تستوعب الأهمية والنتيجة, وتعزّز المكانة التي يجب أن يتربع عليها المفكرون. ولله درّ المتنبي عندما قال:
ولم أر في عيوب الناس عيباً
كنقص القادرين على التمام
وعلى مستوى الإيمان بأهمية أدوات النهوض بالمسؤولية التي يتصدّرها الفكر الاستراتيجي الذي يكتنز في صاحبه إدراك أبعاد القرارات, وبعد النظر, والقدرة على استيعاب الصورة الكبرى لأهداف المؤسسة, وحل المشكلات بالربط بين الظواهر والأسباب, وبين المقدمات والنتائج, والكفاءة في تفعيل موارد المؤسسة البشرية والمادية باتجاه تحقيق الأهداف, والتعامل الذكي مع العوائق التنظيمية، وعند ذلك يكون الحال مناسباً لتأسيس خطاب المسؤولية في المؤسسات, وامتلاك خصوصية في قراءة مضمون العمل المؤسسي, ويصبح الاعتماد على ما يراود حاسة الشعور بالمسؤولية حافزاً لتشكيل فضاء عمل نامٍ، يزخر بمن يفهمون استراتيجيات التحول فهماً مغايراً للفهم السائد, ومن يبتعدون عن مصادر التلقي المألوفة.
وأدلفُ إلى خصيصة أخرى للفكر الداعم للمسؤولية في المؤسسات، هي أن ذلك الفكر يصادفُ دائماً جمهوراً واسعاً من التلقي؛ لأنّ تلك النواتج العقلية ليست ممنوحة لكل مَن يعمل في المؤسسات؛ فالفكر هبة إلهية، رافدها علم ودُربة.
ولعلنا لا نتجاوز واقع الحال إن رأينا أن إقصاء الفكر لا يعدو إلا أن يكون إحداث قطيعة بين المنتج وأهله, وأن حصاد النتائج في تلك المؤسسات الخاوية هي آراء مسبقة, ومعايير وأشكال من الأعمال المماثلة حتى يصل المنتجون إلى توقعات معيّنة، يقبلها واقع المؤسسة وحاضر المسؤول وفق طبيعة ذلك القطاع, وطبيعة الفكر عنده. أما المستفيد (ويشرب غيرنا كدراً وطينا).
وأختزلُ مسافات الطرح في هذه القضية بأن الفكر البشري يُعدّ غاية وهدفاً ومرصداً في المؤسسات الملهمة والمحققة للنهوض بمسؤولياتها, التي ترى في الفكر وأهله معنى للتمايز, وصورة جامعة لاتساق المسؤولية مع روافدها. كما أنه - بلا شك - أعلى موازين القوى في المؤسسات, وترجح كفته على سائد المقاييس.