د. جاسر الحربش
بعد الانتكاسات الاقتصادية الشاملة بسبب الوباء العالمي من غير المتوقع ولا المنطقي حدوث نقلة إنسانية تضامنية بين المجتمعات، والعكس هو الأرجح. الأمم لا تعتبر بما مضى، وإنما تتصارع على المستقبل. كل دولة صناعية معتمدة على التصدير لتغطية احتياجاتها التنموية والاجتماعية خسرت ما بين عشرين إلى ثلاثين في المائة من الناتج القومي؛ لذلك سوف تحاول بشراسة تعويض النقص. المنافسة بين الدول الصناعية الكبرى على الأسواق ستكون أكثر خداعًا وفسادًا مما كانت عليه قبل الجائحة. الحلقة الأضعف في هذا السباق التنافسي ستكون دول ما يسمى بالعالم النامي والعالم الثالث، وتحديدًا تلك التي ينخرها الفساد المالي والإداري منذ ما قبل الجائحة. هذه ليست نظرة تشاؤمية بل استنتاجًا مبنيًّا على متطلبات ستفرضها السنوات القادمة للتعويض عن الإفلاسات والتسريحات، وفوائد القروض، وإعادة البناء والتمويل لمؤسساتها الصحية والرعاية الاجتماعية التي انهارت أو أوشكت، حتى في أكثر الدول غنى وقدرات وعلماء وتقنيين.
ما يهمنا نحن العرب في هذا السباق مع الزمن للبقاء وتأمين أنفسنا من سطوة الآخرين هو:
أولاً: الإدراك القيادي والشعبي أن المنافسة الشرسة على الموارد والمياه والأسواق قادمة لا محالة، وفي الحقيقة بدأت بالفعل.
ثانيًا: إدراك أن التراخي الذي عهدناه في تعاملنا مع إهدار الوقت والاستهلاك العبثي والنفاق الإعلامي، بادعاء الوصول إلى درجة كافية من التطور العلمي والتقني، يجب أن ينتهي؛ فهو مقتلنا الأول.
ثالثًا: أن السباق العالمي علمي تقني إنتاجي فقط، يعتمد على احتكار العقول الوطنية لكل دولة، وليس على الاستيراد والاستعارة والتعاون مقابل أثمان باهظة.
أحاول الآن تناول هذه العناصر الثلاثة واحدًا بعد آخر:
الإدراك الواعي المسؤول أن المنافسة الشرسة على الموارد والمياه والأسواق سوف تكون في ميادين مفتوحة ومستباحة على الهجوم والدفاع، وذلك ما نرى مقدماته منذ الآن. في هذا السياق لم نعد نلاحظ كالسابق الكثير من الصراعات العربية المعهودة، وحلت محلها صراعات إقليمية غير عربية ضد كل المكونات العربية في المنطقة. وجود عناصر فئوية عربية عميلة للخارج لا يغيِّر من مسمى الصراع؛ فالعمالة والخيانة كانتا دائمًا من أدوات الحرب والانتصار والهزيمة. لن تتدخل القوى الكبرى المعروفة بمسمى المتحالفة لفض هذه النزاعات، بل سوف تطيلها، وتستفيد منها للابتزاز بمبيعات السلاح والبضائع، وإعادة الإعمار وإتاوات الحماية. والحال هذه يصبح مَن يظن أو يعتقد أن كل دولة عربية قطرية لا شأن لها بما تتعرض له دولة عربية قطرية أخرى إما عميلاً خائنًا أو متمتعًا بعقل دابة من ذوات الأربع.
العنصر الثاني هو التراخي في أساليبنا المعيشية بإهدار الوقت، والاستهلاك العبثي، والادعاء الإعلامي بالوصول إلى درجات كافية من التطور العلمي والتحديث. يستطيع أي عقل نقدي متجرد من النفاق أن يحسب خلال دقائق كميات الوقت المهولة التي نهدرها على المجاملات الاجتماعية والمسامرات وتبادل الزيارات، إلى آخر الفوائض الزمنية التي لا لزوم لها لكونها تزيد كثيرًا على ضرورات التواصل والترابط الاجتماعي الصادقة. لا أعرف كيف يوفر طاقم في مركز أبحاث مهم الوقت الكافي لأبحاثه، إضافة إلى تلبية متطلبات العبث الاجتماعي بالوقت. وأما الهدر المعيشي فمن المخجل الحديث عنه لأنه هو المسبة الأولى والسخرية بنا في كل العالم.
فيما يخص النفاق المسكوت عن مساوئه فالمقصود به المبالغة الإعلامية المنتشرة في العالم العربي عن تقدير عناصر القوة العلمية والبحثية والتقنية في بعض أو كل الدول العربية. قد تكون بعض الدول العربية - ونحن منها - حققت انتقالاً واعدًا من العالم الثالث المتخلف إلى العالم الثاني النامي، ولكن العرب كلهم ما زالوا متخلفين تقنيًّا وعلميًّا في الأبحاث التطبيقية. المزعج في هذه المجالات يكون أشد وطأة عندما نتأمل في أبحاث الحياة الصحراوية والمياه، وتقنيات استصلاح التربة، واصطفاء النباتات الصحراوية المثمرة، واستمطار الغيوم والضباب، واستحداث كود (أنظمة) بناء معماري يتلاءم مع ظروفنا المناخية القاسية على مدار السنة. نستطيع الاعتزاز بما حققته بعض الدول العربية في أعداد الأطباء الأكفاء في مختلف التخصصات، ولكن النواقص في التمريض والطاقات الفنية والإسعافية والرعاية الأولية تضرب أطنابها في كل الدول العربية. وهذه أهم من الطواقم الطبية؛ لأن كل طبيب يحتاج إلى ما بين خمسة وعشرة أشخاص من الطواقم الفنية والتمريضية والإسعافية.
المحور الثالث لا يحتاج إلى استدلال ولا أيمان مغلظة؛ لكون السباق العالمي بعد جائحة كورونا سيكون مرتكزه العلم والتقنية والذكاء الاصطناعي والاعتماد الذاتي المتسارع على احتكار العقول الوطنية، وليس على الاستعارة والاستئجار والاستيراد. الاتحاد الأوروبي سوف يركز علميًّا وتقنيًّا أكثر على عقول أوروبية للتخلص من التبعية التقنية والبحثية الأمريكية، ومن السيطرة الصناعية الصينية. أمريكا سوف تنكمش على داخلها، وتطبق الحمائية التجارية ضد الإغراق الصيني. الصين سوف تقايض مساعداتها للعالم النامي والثالث بقواعد عسكرية، وامتيازات على أراضيه، وعلى مشاركته في ثرواته. والروس لا شك أنهم قادمون بقوة.
الاستنتاج: مرحلة العداوات القُطرية العربية يجب أن تنتهي. الخطر ماثل على كامل الجغرافيا العربية، وأهم أسلحته التعطيش والتجويع واحتلال الأرض.
تعلم فليس المرء يولد عالما
وليس أخو علم كمن هو جاهل
بالمعنى العلمي للعلم.