د. عيد بن مسعود الجهني
في العشرينيات من القرن المنصرم وبعد أن صمتت نيران الحرب الكونية الأولى عاش الاقتصاد الأمريكي سنوات سمان من الازدهار، وسجلت الفترة الممتدة من عام 1920 وحتى عام 1929 في تاريخ الاقتصاد الأمريكي ارتفاع حجم إجمالي الناتج المحلي وزيادة دخول الأفراد وتدني البطالة واتساع التجارة والاستثمار ومعها ارتفاع مؤشرات البورصة. لكن عام 1929 على الجانب الآخر سجل بزوغ شمس ذلك العام الانهيار (الهادر) الذي أكل الأخضر واليابس. ذلك التاريخ الاقتصادي يسجل عبرا ودروسا عظيمة تستفيد منها الدول بقطاعاتها العام والخاص والأفراد.
ولا يمكن ذكر محطات تلك العبر والدروس دون الوقوف كثيرا عند شهر أكتوبر 1929، ذلك التاريخ الذي سجل يومًا أسود في تاريخ بورصة نيويورك في حي وول ستريد في عاصمة التجارة العالمية (نيويورك). في ذلك اليوم هوت البورصة إلى القاع عندما طرح (13) مليون سهم للبيع دفعة واحدة ودون سابق إنذار.
تلك الأسهم في ذلك الزمن كان حجمها كبيرا، ولهذا السبب ابتعد عنها المستثمرون، فانهارت السوق وخسر مؤشر (داو جونز) 89 في المئة من قيمته، ليتسبب في إفلاس مستثمرين كثر ليسجل ذلك التاريخ الانهيار الاقتصادي العظيم (Great deprassion) والذي نال لقب (الثلاثاء الأسود). ولأن الأزمة هبت رياحها من الولايات المتحدة الأمريكية فإن أول المتأثرين بها هم الأمريكيون بنوك وشركات ومستثمرين وغيرهم في دولة تطبق قانون التجارة الحرة بعيدا عن تدخل الدولة إلى حد كبير. ولذا فإن بنوك أمريكية قارب عددها (5000) آلاف بنك مرخص تعرض معظمها للإفلاس اضطرت بعضها إلى اتخاذ إجراءات عديدة لمواجهة تحديات الكارثة الاقتصادية، بل إن إجراءاتها تلك امتدت إلى استرجاعها أموال كبيرة تعود ملكيتها لها من دول أوربية بعد أن قام المودعون بسحب أموالهم. ومع تطور حلقات ذلك الكساد فقد امتد ليلقي بظلاله على سوق العمل الأمريكي، لتلامس نسبة البطالة 25 في المئة، وبلغت خسائر الاقتصاد الأمريكي أكثر من (30) مليار دولار، وتراجع الناتج الإجمالي المحلي إلى (55) بعد أن كان بحدود (103) مليار دولار، وهذا رقم كبير في ذلك الزمن من التاريخ الاقتصادي.
ولأن الاقتصاد الأمريكي هو واجهة عالم اقتصاد الدول الأخرى غنيها وفقيرها فإن أي (مسمار) يدق في نعش الاقتصاد الأمريكي ينتقل (بلاؤه) إلى الدول الأخرى في قارات العالم.
ولذا فإن حجم التجارة العالمية في تلك الفترة من التاريخ انخفض إلى حوالي النصف، بل إن البعض قد ذهب إلى تدنيها بنسبة الثلثين أي بنسبة 65 في المئة طبقا لقيمتها الدولارية.
جاء هذا التدني الكبير لذا بدأت الإدارة الأمريكية إعادة هيكلة اقتصادها من الناحيتين المالية والإدارية، ولذا اعتمدت تعرفة (سموت هاولي) بهدف حماية الصناعات المحلية والوظائف، وقد ردت بعض الدول باتخاذ إجراءات حمائية ففرضت تعريفات انتقامية لتتسبب الإجراءات الأمريكية والدول الأخرى إلى انحسار التجارة الدولية عام 1930م.
وأمام عاصفة ذلك الكساد لجأت الدول وفي مقدمتها أمريكا لعدة أساليب أهمها إعادة الهيكلة ونقصد بها هنا (المالية) أي إعادة النظر في تحديد الأولويات والإمكانيات والتوازنات المالية وغيرها، وتطبيقا لذلك سارعت الحكومة الأمريكية عام 1930 بفرض ضرائب على أكثر من (20) ألفا من المواد المستوردة، حيث أقر الرئيس (هوفر) قانون (سموت هاولي) الذي نوهنا عنه آنفا لكن نتائجه كانت سلبية على الاقتصاد الأمريكي ومنها تراجع الصادرات الأمريكية.
وفي عام 1933 عندما بلغت الأزمة ذروتها أنشئت هيئة لرعاية العاطلين عن العمل، وصدر قانون الإصلاح الصناعي وآخر منع البنوك من التعامل بالأسهم والمستندات.. الخ.
ورغم ما بذله كل من الرئيس (هربرت هوفر) (1929 - 1933) ثم الرئيس (فرانكلين روزفلت) (1933 - 1945)، من جهود لإعادة هيكلة الاقتصاد الأمريكي إلا أن البطالة مثلا بلغت 19 في المئة عام 1938م، بعد أن كانت بحدود 25 في المئة، وتطبيقا لأسلوب إعادة الهيكلة بنوعيها المالي والإداري فقد جاء قانون (الإنفاق الجديد) الذي أقر بعد انتخاب روزفلت عام 1933 ليؤسس لإنشاء وكالات عديدة لخلق فرص عمل جديدة وتقديم تأمين ضد البطالة.
إلا أن العامل المؤثر الذي جاء ليحد من فيروس البطالة في ذلك البلد هو دخول أمريكا ساحة الحرب العالمية الثانية، بعد أن قام الانتحاريون اليابانيون بقصف البحرية الأمريكية في بيرل هاربر في أواخر عام 1941م.
إذا تلك الضربة اليابانية تسببت بأن يكشر الغول الأمريكي عن أنيابه القوية ليحشد أكثر من (16) مليونا للانضمام لمكنة الجيش الأمريكي للقتال فبدأت البطالة تتدنى حتى بلغت عام 1943 أقل من مليون عاطل عن العمل.
وفي علم الاقتصاد والمال والاستثمار يتضح أن أضخم وأشهر الأزمات الاقتصادية في القرن المنصرم هي أزمة الكساد العظيم التي بدأت في عام 1929 في عهد رئاسة الرئيس الأمريكي السابق (هربرت هوفر) الجمهوري وبلغت ذروتها في نهاية عهده 1933 وامتدت في شراستها حتى بزوغ شمس عقد الأربعينيات.
ومن قراءة سلسلة التطورات على صعيد إعادة هيكلة الاقتصاد الأمريكي الذي هزت هيبته أزمة الكساد العظيم، نجد أن انتخاب الرئيس الأمريكي الديمقراطي فرانكلين روزفلت في عام 1933الذي نجح في إدارة الحرب الكونية الثانية لمصلحة بلاده، فيما بعد نجد أنه تعهد في برنامجه الانتخابي لإيجاد الحلول العملية الاقتصادية والمالية والإدارية للتغلب على الأزمة التي تعاني منها بلاده، ولذا فقد كان من ضمن برامجه الطموحة لإعادة هيكلة الاقتصاد، توقيعه على مشروع (الإنفاق الجديد) سالف الذكر، وأسس (43) وكالة جديدة لخلق فرص للعمل وتوفير إعانات للبطالة.
ولا شك أن دخول بلاده الحرب الكونية الثانية قد منحت الاقتصاد الأمريكي الذي كان يترنح تحت وقع (سندان) الأزمة فرصة النهوض من جديد في طريقة للتعافي عبر سلسلة من تطور التجارة والاستثمار والإنتاج المتزايد لدفع مكنة الحرب.
يتضح أيضا أن الاقتصاد الأمريكي عبر التاريخ إذا (عطس) أصيبت الاقتصادات في الدول الأخرى (بالإنفلونزا) المزمنة خاصة الدول التي تطبق النظام الرأسمالي في الاقتصاد الذي في ظله يعتبر أصحاب رؤوس الأموال أحرارًا في تحديد أنواع استثماراتهم في جميع ميادين الاستثمار، فتدخل الدول محدودا حتى في ظل تعرض الاقتصاد للانكماش.
وهذا أحد أسباب بزوغ شمس الكساد ناهيك أن الاقتصاد الأمريكي شهد حالة من عدم الاستقرار خلال الحرب العالمية الأولى حيث شهد تاريخ تلك الحرب زيادة الإنتاج سعيا لتغطية احتياجاتها في الولايات المتحدة، بعد أن توقفت حركة الإنتاج في الدول الأوربية وتحولت إلى الإنتاج الحربي.
إضافة إلى تلك الأسباب تعثر الدول الأوربية في تسديد الديون المستحقة عليها لأمريكا الأمر الذي أثر سلبا على الاقتصاد الأمريكي والمستثمرون في ذلك البلد وامتد الأثر إلى البورصة في نيويورك التي سقطت أسعار أسهمها فيما بعد بعد أن تعددت أسباب الانهيار الاقتصادي الكبير.
إذا الأزمة الاقتصادية الخطيرة التي تفجرت في ثلاثينيات القرن المنصرم كانت إحدى الكوارث الخطيرة، بل وأهمها التي خرجت من رحم الحرب الدولية الأولى، بل وسبب من أسباب الحرب الكونية الثانية.
وما قام به الرئيسان (هوفر وروزفلت) من جهود لإعادة هيكلة اقتصاد بلادهم كان أهم أسباب عودة الاقتصاد إلى التعافي فتحول الانكماش إلى تطور مستمر في العودة إلى الحياة.
هي أمريكا التي كان إجمالي ناتجها المحلي (103) مليار دولار وكان أكبر الاقتصادات.
هي أمريكا اليوم وبعد تسعين عاما أصبح إجمالي ناتجها المحلي أكثر من (20) ترليون دولار وديونها أكثر من (24) ترليون دولار.
وستبقى أكبر الاقتصادات.
وذلك الكساد العظيم لن يكون الأول والأخير.. فالعالم شهد وسيشهد زلازل اقتصادية عديدة بعضها أكبر من أختها.
إنها عبر ودروس في علم الاقتصاد والمال والاستثمار.
والله ولي التوفيق،،،