لدى كثير من المترجمين، وبعض أساتذة الترجمة، مقاربة ترجمية يمكن تلخيصها في العبارة المشهورة في أوساط المترجمين: «افهم النص ثم عبر عنه بطريقتك». وتفسير هذه الجملة: حدد الشيء الذي تتحدث عنه العبارة الأصلية ثم انقله إلى اللغة الأخرى بطريقتك. تبدو هذه المقاربة لعملية الترجمة في ظاهرها صحيحة ولا إشكال فيها, ولكنها في الواقع مقاربة قاصرة لأنها تأخذ بعين الاعتبار عنصرا واحدا فقط من عناصر منظومة المعاني وهو المعنى الإيحالي, وتهمش عنصرا مهما في منظومة المعاني وهو المعنى الذهني الذي يرتبط بنوع مهم آخر من أنواع المعاني وهو المعنى البرغماتي الذي يرتبط بمقصد المتحدث وعلاقته تجاه الشيء الذي يتحدث عنه. تؤدي الكلمة (الإشارة عموما) وظيفتين، إلى جانب وظائف أخرى،: فهي تشير إلى الشيء (قد يكون ماديا وغير مادي) وهو المعنى الإيحالي، وتعبر عنه وهو المعنى الذهني. ما يهمنا في هذا المقام هو المعنى الثاني: المعنى الذهني الذي يعبر عن السمات الموضوعية والعامة للشيء (المشار إليه) في الذهن، أي أن هذا المعنى يقدم أكثر من طريقة لعرض الشيء، وبعبارة مجازية: يقدم زوايا مختلفة للنظر إلى الشيء، وتختلف هذه الطرق أو «الزوايا» باختلاف الكلمة أو العبارة المستخدمة. وتجدر الإشارة إلى أن الكلمة تمتلك هذا المعنى وهي في اللغة أي باعتبارها وحدة لغوية بغض النظر عن استخدامها في الكلام (أما ما يخص المعنى الإيحالي فإن الكلمة باعتبارها وحدة لغوية تمتلك: extension: أي مجموعة الأشياء التي يمكن أن تشير إليها الكلمة، وباعتبارها وحدة كلامية تمتلك: referent أي شيء محدد يعنيه المتحدث عند استخدامه للكلمة). ويُعبّر عن المعنى الذهني بأكثر من مصطلح في علم اللغة وعلم الدلالة المنطقية، مع إمكانية وجود بعض التباين في تحديد جوهر المفهوم بين العلماء،: فالعالم الألماني فريغه يستخدم المصطلح الألماني (Sinn) الذي يقابله في اللغة الانجليزية: sense / أما العالمان الأمريكيان اوغدن وريتشاردز فيطلقون عليه: thought of reference / والعالم الألماني – الأمريكي كارناب: intension. وإلى جانب هذه المصطلحات هناك أيضا مصطلح لغوي متداول وهو: .signified
في أثناء العملية التواصلية يختار المتحدث إحدى السمات الموضوعية للشيء ويستخدمها للتعبير عنه وذلك من خلال وسائل التعبير اللغوي، أي أنه يختار طريقة معينة لعرض الشيء، وزاوية رؤية محددة ينظر من خلالها إليه. ولذلك من الظواهر اللغوية والإشارية بشكل عام أن يكون هناك عدد من الكلمات أو العبارات تشير إلى شيء واحد ولكنها تختلف في طريقة عرض هذا الشيء، أي أنها تتفق في المعنى الإيحالي وتختلف في المعنى الذهني، مثال ذلك: واضع معجم العين / واضع علم العروض / أستاذ سيبويه: تتفق هذه الجمل في المعنى الإيحالي أي أنها تشير إلى مشار إليه واحد وهو الخليل بن أحمد الفراهيدي، ولكنها تختلف في المعنى الذهني: أي أنها تعرضه وتصفه بطرق مختلفة: فالأولى: تصفه من خلال أحد مؤلفاته / والثانية: من خلال العلم الذي ابتكره / والثالثة: من خلال علاقته بسيبويه وأنه كان أستاذا له. هذا يعني أن الكلمات أو العبارات التي تتفق في المعنى الإيحالي ليس دائما يمكن أن تحل إحداهما مكان الأخرى وذلك بالنظر إلى السياق الذي ترد فيه. ويطلق على السياقات التي يؤدي فيها استبدال كلمة بكلمة أخرى لها نفس المعنى الإيحالي إلى تغيير حقيقة الجملة أو تحريف معناها، يطلق عليها مصطلح «السياقات غير الشفافة». وفضلا عن ذلك، فإن تغيير الكلمة بكلمة أخرى تشير إلى نفس المشار إليه يؤدي، كما ذكر آنفا إلى تغيير المعنى الذهني الذي بدوره يحدث تغييرا في المعنى البرغماتي، أي طريقة العرض التي اختارها المتحدث أو الكاتب ليصف بها المشار إليه ويعبّر من خلال هذه الطريقة عن علاقته أو موقفه أو تقييمه له.
هناك مقاربتان بخصوص طبيعة المعنى الذهني، فهناك فريق من العلماء (منهم العالم الروسي شفيتسير) يرى أنه ينتمي إلى المعنى الدلالي بحكم أنه يدخل في إطار العلاقة بين الكلمة وما تشير إليه، والفريق الآخر (ومنهم العالم الروسي غاربوفسكي) يرى أنه ذا طبيعة برغماتية لأنه يدخل في إطار العلاقة بين الكلمة وبين من يستخدمها، لأن المتحدث ينتقي سمة معينة من بين عدد من السمات ليصف بها الشيء ويعبر من خلال هذه السمة عن علاقته تجاهه. ويمكن اقتراح مقاربة ثالثة وهي: أن يٌقسّم المعنى الذهني إلى قسمين: الأول على مستوى اللغة: المعنى الذهني اللغوي (وهنا يدخل في إطار المعنى الدلالي)، والثاني على مستوى الكلام: المعنى الذهني الكلامي (وهنا يدخل في حكم المعنى البرغماتي).
ويكمن سبب عدم حرص بعض المترجمين على نقل المعنى الذهني الكلامي في الاعتقاد السائد أن المهم هو نقل المعنى الإيحالي أي: عن ماذا يتحدث الكاتب؟ ولكن عدم نقل المعنى الذهني يحجب سؤالا آخر لا يقل أهمية وهو: كيف تحدث الكاتب عن الشيء، أي من أي زاوية ينظر المؤلف إلى المشار إليه؟ ويرتبط بالسؤال الأخير سؤال آخر، يعده بعض علماء الترجمة هو هدف أي ترجمة، وهو: لماذا تحدث المؤلف عن الشيء بهذه الطريقة بالتحديد دون غيرها؟
وهكذا نرى أن تجاهل المعنى الذهني الكلامي يتسبب في إحداث تغيرات في أنواع أخرى من المعاني، وهذه السلسلة المتلاحقة من التغيرات شبيهه «بتأثيرالدومينو»: إذ يؤدي إلى الإخلال بالجانب البرغماتي الذي يتمثل في علاقة الكاتب بالشيء الذي يتحدث عنه وما يرتبط بهذه العلاقة من تأثير برغماتي محتمل يتوخاه الكاتب.
ولكن لابد من الإشارة إلى أنه ليس دائما يجب أو حتى يمكن الاحتفاظ بالمعنى الذهني، فلكي يستوعب المتلقي نص الترجمة يضطر المترجم أحيانا أن يستبدل المعنى الذهني الأصلي بمعنى ذهني يساعد المتلقي على استيعاب النص. وخلاصة القول: لابد أن يكون الطريق الأول الذي يسلكه المترجم هو طريق المحافظة على المعنى الذهني الأصلي، وفي حال تعذر ذلك، بسبب أنه سيؤدي إلى خلل في فهم النص، يلجأ المترجم حينها إلى استبدال المعنى الذهني بمعنى ذهني يناسب المتلقي.
وفي ختام هذا الجزء: لكي ينجح المترجم في مهمته الترجمية، لابد أن يطرح على نفسه ثلاثة أسئلة ورد تفصيلها آنفا: عن ماذا؟ / كيف؟ / لماذا؟
** **
د. بدر بن عبدالله العكاش - كلية اللغات والترجمة - جامعة الملك سعود