في مثل هذه الأيام من العام الماضي وبالتحديد يوم الثلاثاء 27 من ذي القعدة 1440هـ الموافق 30 يوليو 2019م فقدنا رجلاً استثنائيًا ما زلنا بفقده نغالب مر ولوعة الغياب.
عرفت في الحبيب الراحل عبدالرحمن الشبيلي الصفات الحميدة من وفاء وتقدير واحترام للجميع. ولن أكرر ما سبق أن قلته وقاله غيري بعد وفاته -رحمه الله- في العام الماضي، لكني استشهد بما لمسته شخصيًا أثناء مرافقته في السفر.. وقد قالت العرب: السفر ميزان القوم، كأنه يزنهم بأوزانهم ويفصح عن مقاديرهم في الكرم واللؤم.
وقيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أحد الصحابة، هل تعرف فلانًا؟ فقال: نعم أعرفه، فرد عليه ابن الخطاب: هل سافرت معه؟ أو عاملته بالدرهم والدينار؟ قال: لا. قال له أذن أنت لا تعرفه.
سافرت مع أعضاء اللجنة العلمية لمؤسسة حمد الجاسر الخيرية - مركز حمد الجاسر الثقافي- إلى لبنان في الفترة من 20 إلى 24 يونيو 2010 بدعوة كريمة من أمين عام المؤسسة المهندس معن بن حمد الجاسر في رحلة علمية جمعتني بالأساتذة أعضاء اللجنة: عبدالله الصالح العثيمين، وعبدالرحمن بن صالح الشبيلي رحمهما الله وعبد العزيز المانع ومحمد الهدلق وعبدالعزيز الهلابي وسعد البواردي، وقد اعتذر أحمد الضبيب لظروف خاصة.
تجولنا في لبنان وبالأخص المناطق والضياع المحيطة بالعاصمة - عالية، سهل البقاع، حمانا، بحمدون، شتورا، زحلة، رأس المتن، بعبدا، برمانا وغيرها - وكنا بسيارة واحدة بقيادة أمين المؤسسة معن الجاسر. الذي يعرف مسالك ودروب العاصمة وما حولها لكونه قضى طفولته وتعليمه الأولي بها. حتى إن الدكتور محمد الهدلق أطلق عليه لقب (الخرّيت) وعلى مدى خمسة أيام قضيناها هناك أغلب ساعات النهار متنقلين بالسيارة، لاحظت أن الشبيلي أول من يأخذ مكانه في المقعد الخلفي طوال المدة، حتى لو لم يجده فارغًا يطلب ممن شغله بالتنازل له بدعوى راحته، ومع تكرار ذلك عرفت أنه احترامًا وتقديرًا لزملائه يترك لهم المقدمة في المرتبتين الأولى والثانية، وأنه قليل الكلام، وقد يسعف الدكتور المانع بطرف نكتة يرويها بصوته الجهوري ولموقعه الوسطي، وحتى إذا تطلب الأمر الضحك تجد الشبيلي يبتسم ويترك القهقهة لغيره، وعندما يتناقش الجميع بموضوع ما ويتطلب الأمر أخذ رأيه إذ إنه يشارك بالاستماع يقول ما يراه مناسبًا فيتفق عليه الأغلبية.
عندما كنا في زحلة على الغداء قال: إننا بجوار رأس المتن وبه منزل الشيخ عبدالرحمن أبا الخيل وزير العمل والشؤون الاجتماعية الأسبق، فما رأيكم لو زرناه وتناولنا عنده القهوة التي لم نتناولها منذ مغادرة الرياض، وافق الجميع وعرفنا بعد ذلك أنه سبق أن اتصل به ووعده وعرفنا أن أبا الخيل خال أولاده.
بقي معنا طوال الفترة وفي المطار افترقنا عدنا إلى الرياض وهو واصل سفره إلى حيث تصيف عائلته بباريس.
اتصل بي قبل ست سنوات وسألني: هل دعيت لحضور المهرجان الثقافي بمركز صالح بن صالح بعنيزة، فقلت نعم دعيت واعتذرت لعدم وجود مشاركة لي، فقال وإذا دعوتك لمرافقتي، لأنني سأذهب غدًا لوحدي، وبعد إلقاء المحاضرة قد نعود في الليل أو في صباح اليوم التالي، قبلت دعوته خجلاً منه، وفعلاً حضر لمكتبي في الضحى، ورافقته واتجهنا ظهرًا إلى الفندق بعد قطع الطريق بالسواليف المفيدة وتناولنا غداءنا واسترحنا وذهبنا لمقر الحفل حيث التقينا بأعضاء المركز وضيوفه، وبعد نهاية المحاضرة تناولنا العشاء معهم مما اضطرنا للمبيت بالفندق، وفي الصباح أجده ينتظرني في الصالة، فقلت له: لماذا لم تتصل بي؟ قال: ظننتك نائمًا، وبعد تناول الإفطار وجدته يذهب لمسؤول الفندق ويسدد حساب المبيت والطعام، فسألته ألسنا ضيوفًا على المركز؟ قال: بلى ولكن حتى لا نثقل عليهم.. فخجلت من نفسي، وكان يرافقنا بالعودة الدكتور عبدالله العثيمين رحمهما الله، فاستمتعنا بالمناكفات والقفشات والتعليقات البرئية التي أعادت ذكرى رحلتنا إلى لبنان.
وعند وصوله إلى المكتب ظهرًا وإذا هو يفتح باب السيارة الخلفي وينزل منه مجموعة كراتين وعلب صفيح (تنك) وبها كليجا وتمر فحاولت الاعتذار ولكنه قال: أنا عامل حسابك فهذه إحدى جاراتنا في عنيزة كبيرة السن وكنت أعاملها عند كل رحلة إلى عنيزة أطلب منها أن تجهز لي هذه الأكلات الشعبية التي تتقنها.
ولاحظت أنه الوحيد تقريبًا الذي عندما يهديك أحد كتبه ويكتب عليها كلمات الاهداء المعتادة يشرك الأسرة بقوله: مع خالص المودة لأخي الغالي أبي يعرب وأسرته الكريمة رعاهم الله. وعندما تكون هناك مناسبة زيارة أحد الضيوف المشتركين وتدعوه مع غيره، لا يحضر إلا ومعه شيئًا يقدمه مثل: التمر عند أول نضوجه أو فاكهة محلية وبالذات التي تشتهر بها عنيزة.
دوره الصامت في مركز الشيخ حمد الجاسر وإشرافه وتنسيقه وتصحيحه لكثير مما تركه الجاسر من مذكرات أو مقالات متفرقة، فهو يعتني بها ويصححها ويتابع طباعتها.
لا أنسى تشجيعه لي وإشادته بما أكتب وحتى اقتراحه لعناوين وأسماء بعض الكتب وبالذات كتابي (بوادر المجتمع المدني في المملكة)، وقد راجع وصحح ووجه ببعض الملاحظات على كتابي (سليمان بن صالح الدخيل) الذي أحاله له النادي الأدبي بالرياض بحكم تخصصه، ورفضه كتابة تقديم له عندما علم أنه سبق أن قدم له الدكتور عبد اللطيف الناصر الحميدان، إضافة لمراجعته لكتابي الثالث (نماذج من صحافة أبناء الجزيرة العربية في الخارج) الذي أصدره مركز حمد الجاسر الثقافي عام 1430هـ وقدم له بكلام فيه إطراء ومدح أخجلني، عندما قال: «أثبت الأخ الأستاذ (أبو يعرب) محمد بن عبد الرزاق القشعمي، خلال السنوات الخمس الماضية، وعبر إصداراته العديدة التي تناولت تاريخ البدايات الصحفية في مختلف مناطق المملكة العربية السعودية، وعبر كتب التراجم التي ألفها عن بعض رواد الصحافة أو عن بعض الشخصيات السياسية السعودية، أثبت أنه باحث متمكن في تتبع الموضوعات التي تخصص في الكتابة فيها، سواء أكانت في تاريخ الصحافة المبكرة أو في مجال السير والتراجم وغيرها..» إلى أن قال: «.. ولقد كنت، بصراحة، أشعر أن (أبا يعرب) بحاجة إلى مزيد من التأني في أبحاثه، كي تحقق ما يرجوه القارئ منها من الفائدة العلمية، لكنه، والحق يقال، أصبح، وعن اقتناع يكتشف ميزة تلك الملحوظة، وصار يبذل مزيدًا من الدقة والجهد لاستيفاء ما يدون عليها من تصويبات، فيراجعها، فجاءت أكثر نضجًا وتكاملاً مع تقدم تجربته التأليفية الغزيرة.. الخ».
رحم الله أبا طلال فقد كان محبًا ومحبوبًا من الجميع لما يتحلى به من صفات حميدة وسجايا طيبة لا تتوافر في غيره، كنت أُحضرُ له بعض الأعمال لمنزله أو يطلب مني شيئًا منها ليستكمل بحثه فيها، وكنت اختار الوقت الذي لا يستحب فيه الزيارة وبالذات في الصباح الباكر وأنا متوجه لعملي فأترك ما طلبه أو ما أحمله لدى العامل في مدخل المنزل، وأذهب وبعد دقائق يهاتفني شاكرًا ومستغربًا عدم دخولي فهو في مكتبه لوحده وأمامه القهوة والرطب فيغريك بحلاوة حديثه وببساطته المعتادة لتعود. وقد زرته قبل سنوات ظهر يوم الأحد فوجدته بين عدد من المسؤولين من أعضاء مجلس الشورى القدامى، فقدمني لهم وكنت على معرفة ببعضهم، ورأيت تعاملهم مع بعضهم وتمازحهم وتبادل الطرائف والنكت والتباسط في الحديث وتسابقهم على خدمة زملائهم بتقديم القهوة والشاي ومستلزماتها من رطب وفاكهة وغيرها، وكان من أكثر من يبادر بإدارة فناجين القهوة والشاي وإمامتهم صلاة الظهر اللواء المتقاعد وعضو مجلس الشورى السابق عبد القادر كمال. وعرفت فيما بعد أن هذه العادة مستمرة منذ سنوات في منزل أبي طلال لزملائه أعضاء مجلس الشورى القدامى وقد استمرت حتى وفاته -رحمه الله- إذ انتقل اجتماعهم الأسبوعي لمنزل زميلهم معالي الأستاذ محمد الشريف.
وقد لاحظت أن بعضهم يروي الطرفة أو القصة المضحكة أو يذكرهم بها المضيف فيضحكون أما هو فيكتفي بالمناكفات الصامتة التي لا تحرج ولا تجرح أو تسيء، فتجده يبتسم فقط، وتحس بفرحه وسعادته وهو بينهم وكأنه بمناسبة فرح نادرة وليست تتكرر أسبوعيًا.
آخر مشاركة أحضرها معه -رحمه الله- في معرض الكتاب الدولي الخمسين بالقاهرة 10 فبراير 2019، في الصالون الثقافي بجناح المملكة، كانت ترافقه رفيقة دربه أم طلال - زكية بنت عبدالله بالخيل - وكانت الدعوة لتكريمه ولكنه رفض فكرة التكريم، واستبدلها بإلقاء محاضرة عن أحد أبناء مصر الشيخ حافظ وهبة ودوره كمستشار للملك عبدالعزيز عند توحيد المملكة، ومسؤوليته عن التعليم كأول مدير للمعارف بالمملكة الحجازية والسلطنة النجدية ثم سفيرًا لجلالته في إنجلترا.
رحم الله أبا طلال فقد كان لرحيله المفاجئ لوعة وسحابة حزن ثقيلة على جميع من عرفه التي قالها صديقه الدكتور مرزوق بن تنباك (الرجل الذي لن ينساه من عرفه) لوفائه ونبله وحبه، وهذا يتجلى بما كتبه بعضهم من مقالات وقصائد في رثائه وما أقامته المؤسسات الثقافية من ندوات ومحاضرات تذكره وتشكره وتشيد بفضائله وما يتحلى به من خصال حميدة وقد خلد اسمه بما ترك من أعمال ثقافية وتاريخية عامة، فالإنسان قد يعيش حتى المائة فيموت ولكن كتبه ستبقى بعده مئات السنين.
والآن قد مر عام على فراقه، ففقدنا بفقده أخًا عزيزًا حريصًا على القيام بالواجب في الأفراح والأتراح مهما بعدت المسافة بين المناطق، ومهما كانت درجة معرفته بالآخر من قرب أو زمالة عابرة، تجده في المناسبات يبادر بالاتصال ويتفقد أصدقاءه ومعارفه وقرابته، ويصحب معه ما يدخل عليهم الفرح والسرور -رحمه الله-.