سهام القحطاني
«كانت والدتي تؤكد علينا أن تعليم المرأة هو سلاحها» -الأميرة سارة الفيصل-
***
شخصية استثنائية فكرًا وسلوكًا وإنجازًا يعود إليها الفضل بعد الله ودعم زوجها حكيم ملوك ورؤساء الأمتين العربية والإسلامية الملك فيصل آل سعود -رحمه الله- إلى ما عليه اليوم المرأة السعودية من علم ومعرفة أبهرت بهما العالم.
فوراء كل امرأة عظيمة رجل عظيم مقولة تتجسد بالحقيقة والواقع فقد آمن الملك فيصل -رحمه الله- بالمشروع التنويري النهضوي للأميرة عفت الذي كان يسعى إلى تأسيس البنية الأولى لمستقبل تعليم البنات في السعودية من خلال الالزام بتعليم البنات المشروع الذي تبناه الملك فيصل -رحمه الله- وسانده بكل قوة.
من يتتبع السيرة التاريخية للمرأة السعودية من بعد سيظن أن المرأة السعودية شخصية سلبية وساكنة خلف حجاب الخوف لأنه تعود على ضجيج الحركات النسوية وفلاشات الكليشات البراقة التي تتلاشى مع شروق الشمس، لكن لو اقترب من تلك السيرة وتأمل خطواتها ومراحلها سيكتشف أن المرأة السعودية شخصية حيوية بالإيجابية وقوة الإرادة وأن خلف الحجاب ليس الخوف بل صوت الحكمة الذي شكّل شخصية مميزة وشجاعة ومنتِجة نالت أعلى الجوائز العالمية وأرفعها شأناً، وهنا يحضرني مقولة للأميرة لولو الفيصل عندما سئلت عن عزوف والدتها الأميرة عفت عن المقابلات الصحفية «علينا أن ندرك كل جيل والدتي..كان النساء والرجال يحملون هذه القناعة مبتعدين عن بؤرة الضوء ومنشغلين بهاجسهم في البناء وتحقيق النتائج بصمت» وتلك خاصية من خصائص المرأة السعودية التقدم والترقي في صمت.
كما يعد بعض الراصدين للتطور النهضوي للمرأة السعودية أنه حاصل الصدمة الحضارية لعشر سنوات ماضية وهو اعتبار غير حقيقي، فالمرأة السعودية اليوم تحصد ثمار الجهود التنويرية التي قادها حكام السعودية منذ المؤسس الخالد الملك عبدالعزيز -رحمه الله- مرورًا بقرار تعليم البنات وحتى رؤية الخير والتنوير 2030 سيرة تاريخية تؤرخ أن المرأة منذ المؤسِس الخالد حتى اليوم كانت نصف المعادلة متساوية بالرجل في الحق والاستحقاق تتسع أفق تلك المعادلة تدريجيًا مع الأيام.
لكن الرجل مهما امتلك من قوة تمكين لا يستطيع بناء مستقبل المرأة، بل المرأة النموذج هي التي تستطيع أن تفعل ذلك؛ لأن المرأة تحتاج إلى نموذج قدوة ليطمئن عقلها وإحساسها بصدق وواقعية وأمن التغيير، وهذا ما كانت تمثله الأميرة عفت للنساء والبنات في زمنها القدوة والمنهج ثم أصبحت الرمز لأجيال النساء.
كانت نموذجًا للمرأة الحلم والنهضة والعصرية فهي متعلمة مثقفة شجاعة وقوية تملك فكرًا مختلفًا مع تقوى ناعمة واحترام لتقاليد وعادات المجتمع، لذا كانت مصدر ثقة الأسر السعودية فأرسلوا بناتهن للتعليم في مدرسة دار الحنان التي أسستها قبل التعليم النظامي وأصبحت منارة فكرية تتسابق عليها الأسر باختلاف مستوياتهم الاقتصادية، هذه المدرسة التي أخرجت أجيالاً من الفتيات قدن عجلة التنمية في السعودية حتى اليوم فلا تجد امرأة قائدة في أي مجال من المجالات المختلفة إلا وتكون من خريجات دار الحنان.
فدار الحنان لم تكن مجرد مدرسة لتعليم العلوم المختلفة بل كانت -وهذا ما كانت تسعى إليه الأميرة عفت وتشجع الطالبات عليه- مصدر بناء الشخصية الواعية المثقفة التي تملك القدرة على التفكير والبحث والحوار والتغيير.
لقد آمنت قبل الجميع بأن نهضة السعودية لن تكتمل إلا بالمرأة الواعية والمقدِرة لمسؤوليتها والمشاركة في صناعة الإنجاز النهضوي فالشعوب لا تتقدم بالمال والرجال فقط بل بالنساء.
آمنت قبل الجميع أن العلم هو الوسيلة الوحيدة لخلق ذلك الوعي بأهمية المرأة لكينونتها وتقدير قوتها وقيمتها ومسؤوليتها نحو وطنها.
آمنت بأن الشعوب لا تستطيع أن تتجاوز الفجوات الزمنية لبناء حضارة إلا من خلال التعليم وأن تعليم البنات يجب أن يسير بخط متواز مع تعليم البنين فأي نهضة من دون امرأة متعلمة هي نهضة عرجاء.
فعقلها «سبق زمنها وقلبها أعطى الأمل لمن فقده، قوة عزيمتها الهمت الغير للتطلع إلى أفق أرحب للرقي بأنفسهم وبمجتمعهم، شخصيتها كانت مثل الشمس تبعث الدفء في القلوب - كما تصفها حفيدتها ريم سعود الفيصل-.
وهذا التفكير التنويري لم يكن بمستغرب على الأميرة عفت التي درست في أفضل المدارس حتى حصلت على دبلوم المعلمات وصقلت فكرها بالقراءة والثقافة، تقول الأميرة لطيفة الفيصل «كانت هواية والدتي المفضلة القراءة ببساطة كانت تقرأ كل شيء.. لأنها كانت تؤمن بأن الإنسان يجب أن ينمي ثقافته بالقراءة والاطلاع» هذا الإيمان هو الذي رسخته بين أجيال الطالبات في دار الحنان وما زال هو المنهج المعرفي لكل المدارس التي كانت ترعاها من دار الحنان حتى جامعة عفت.
أن تكون متعلمًا وقارئًا لا يعني بالضرورة أن تكون رائدًا مؤثرًا، إذا لم يكن لديك مشروع نهضوي وهذا ما ميّز الأميرة عفت عن النساء في زمانها أنها كانت صاحبة مشروع نهضوي قابل للتخلّق والحياة، مشروع غاياته ومقاصده بعيدة المدى، لقد راهنت على قدرة واستثنائية المرأة السعودية متى ما تحققت لها الإمكانات والفرص وأثبتت الأيام أنها على حق.
ولم تكن الأميرة عفت تملك فكرًا ورؤية تنويرية فقط، بل مسارًا تنمويًا .
تجلى من خلال الجمعيات الخيرية التي كانت أشبه بمؤسسات المجتمع المدني فلم تكن تلك الجمعيات قاصرة على الدور الرعوي والخيري» بل كان دورها الأهم التعليم ونشر الثقافة.. كان من بينها الندوات والمحاضرات وتعليم اللغات ومحو الأمية والعناية بالأسر الفقيرة « كما تقول الأميرتان لولو ولطيفة الفيصل.
رحلت الأميرة عفت وظل فكرها ومنهجها وسيظلان الشعاع الأول الذي أنار درب البنت السعودية لتصبح بالأمس واليوم رائدة وقائدة تُحلّق نحو منافذ الشروق وتحجز مكانها في الاصطفاف العالمي.
لن تنسى المرأة السعودية سواء من خلال الأجيال الماضية أو الحالية أو الآتية دور الأميرة عفت -رحمها الله- في أنها أول من فتح باب المستقبل لها فاستحقت ريادة التنوير عبر أجيال التاريخ.
ستظل الأميرة عفت -رحمها الله- جزءًا من ذاكرة وتاريخ نهضة هذا البلد المبارك وفاصلة زمنية مُؤرخة للسيرة التاريخية للمرأة السعودية في زيها النهضوي بين ما قبل ظهور الأميرة عفت وما بعد ظهورها.
تحية تقدير لكل امرأة سعودية في كل موقع فهي القوة الناعمة لنهضة أمتنا التي همتها لا ترضي إلا بالقمة مكانًا.
... ... ...
*الأقوال من كتاب «دار الحنان»-رانية سلامة.