قاعدة لا تكاد أن تنفصم، ملخصها أن الابن النابه يدل على سمو أبويه أو أحدهما، وقاعدة أخرى لا ينبغي لها أن تنثلم، ولبابها أن بر الأبناء بالآباء دليل على تربية عميقة، وأسرة عريقة، وشمائل متوارثة متوالية من الأجداد إلى الأبناء فالأحفاد، وهكذا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ويا لهناء من ارتبط بسبب أو نسب مع أسرة هذا شأنها وتلك أخبارها المنيفة.
أقول ذلك بعد أن فرغت من قراءة كتاب عنوانه: عبدالرحمن بن علي التركي العمرو: الألفية لا الأبجدية، تأليف: إبراهيم بن عبدالرحمن التركي، صدرت الطبعة الأولى منه حسب المكتوب عام (1442-2020م)، ويقع في (286) صفحة زاهية ناصعة تنبئ عن تمام الإحسان والسعادة، والكتاب مكون من إهداء وقبل البدء، ثمّ خمسة فصول فملحق صور ووثائق.
أهدى المؤلف الكاتب د.إبراهيم التركي كتابه لوالدته الفاضلة موضي بنت صالح الرعوجي التي كانت شمسًا لوالده، وسماء لأنجالها مع والدهم، فظفر المؤلف ببر والديه في عمل واحد، وفي مستهل الكتاب صورة له مع والده وهو في الخامسة من عمره، ثمّ أضاف رسمًا مشجرًا جميلًا فيه آثار عبدالرحمن وموضي وثمارهما من أولاد وبنات وأحفاد وأسباط، وهي بادرة جميلة للتعريف بالمترجم له وأسرته المحيطة به.
وفي الكتاب صور كثيرة لصاحب السيرة اللغوي الأديب الشيخ عبدالرحمن بن علي التركي العمرو(1352-1441)، وبعضها دون تعريف بمن فيها أو بمناسبتها، وكثير من الصور ذات أبعاد ثقافية أو اجتماعية أو تربوية أو تعبدية، وتعبر بذلك عن محاور حياة الرجل، وشؤونه التي صرف إليها الوقت والجهد، ونعم المغنم الذي ظهر يوم رحيله بتوافد الناس للصلاة والتشييع، وإن لحظة الوداع لصادقة حين لا يكون في الوداع مصلحة دنيوية.
كما تجلّي السيرة حرص أبي إبراهيم على بر والديه والتلطف بهما، وتشير لعنايته بالقراءة وطلب العلم منذ صغره، ومن أراد تتبع مجالس عنيزة على اختلاف أوقاتها وأصحابها وحضورها ومحتواها فسيجد في سيرة أستاذنا الأريب خير دلالة عليها، وإن تكثير مجالس المثاقفة والعلم والفكر والأدب لمما ينفي الزغل والتفاهة عن واقعنا على صعيد التنظير وفي صعد العمل، وللقائمين على تلك المجالس والديوانيات والصالونات وأمثالها في كلّ ناحية التحية المضاعفة.
كذلك امتاز المربي الراحل بعلاقة الأب والصديق والمعلم والمحاور والقارئ مع بنيه وأنجالهم، وروى المؤلف متابعة أبيه لمقالاته وكتبه مع رأيه الصريح اللطيف في عناوينها ومضامينها، وساق طرفًا من المكالمات الطويلة بينهما التي تتجاوز واجب الصلة إلى التباحث العلمي والفكري، وخرم الأب ونجله بذلك قول العرب: أزهد الناس في عالم أهله، وغدا زامر الحي مطربًا عندهما، وهو الذي عند غيرهما خلاف ذلك غالبًا.
بينما تظهر العصامية والاستقلالية في مسيرة الرجل كشمس يوم صحو لا يحجبها غيم ولا غبار، فنظام التعليم الذي لا يعجبه يتركه، ثمّ يعلم نفسه بنفسه، وينأى بها عن الانتساب لأيّ تيار ذات اليمين والشمال مع أن الدنيا تمور من حوله وتدور، ولربما أنه ورث هذه الخلال لبنيه فحماهم الله من اللجاج الجدلي، ومن الحزبية الضيقة، ونرى فيئها بازغًا لا يأفل في قلم د.إبراهيم ولفظه وفكره، والله يكثر في المجتمع من هذه النماذج المباركة التي لا يعنيها سوى بلوغ الحق، وتحقيق المصلحة الشرعية أو النظامية العامة.
أيضًا ظل الأستاذ المثقف منعمًا بصحته، متفاعلًا مع مستجدات عصره الرياضية والإعلامية والتقنية؛ إذ يتابع تويتر، ويشاهد الجاد من الفضائيات، ويلتقط من اليوتيوب أطايبه، ويستعمل جهازًا لوحيًا، وهذا نهج نادر في بني جيله، ومن اللافت أنه لم يهجر لأجل هذه المستجدات الكتاب والصحيفة والمذياع والمجالس العامرة بالفوائد والملح والنوادر؛ وتلك موازنة تكاد أن تُفقد في واقعنا؛ لأن الناس أسرفوا في عالم التقنية والاتصالات؛ وكثير من السرف في غير ما طائل.
وكان المربي العالم قليل الكلام مختصِرًا، غزير المعاني مستجمعًا فيما يقوله أو يبديه لأطراف الكلام، وله تفاعلاته الأدبية خاصة مع قصيدة المعتمد بن عباد في سجنه، وقصيدة ابن زريق في مغتربه، وهما قصيدتان تستدران دمع القارئ، وكم من شاهد على تأثر الأديب البصير بهما في قاعة الدرس بالمعهد العلمي، وتفاعله الروحي معهما، تمامًا كما كان يفعل مع قصيدة ابن زيدون في ولادة، وإن اهتزاز المرء لدقيق المعاني، ونفيسها، ونبيلها، لدليل صادق على علمه، وفضله، ونبله، وشفافية روحه، وصدق إحساسه، وعلى براءته من أضداد هذه الفضائل.
لم يكتف الابن برواية معاينته هو وإخوانه، بل أتاح لغيره المشاركة نفيًا للمبالغة، وطلبًا للموضوعية، وإكمالًا لجوانب قد تخفى على القريب؛ فكتب في الفصل الثالث تسعة من رفاقه في المدارس والمجالس، وهم من أجيال مختلفة وتلك خصيصة عُرف بها أبو إبراهيم؛ فصداقاته تتداخل مع أجيال متباعدة، وفي الفصل الرابع كتب عنه ثلاثة عشر صديقًا، ووقّع تلاميذه ومحبوه أربعة وثلاثين مقالة في الفصل الخامس ليختموا بذلك الكتاب عن السيرة والمسيرة التي يشهد لها، ويستجلي مفاصلها، أو يحلل أسرار نبوغها، أو يشير لخلالها الحميدة، ستون من الكمّل العقلاء العلماء، وفيهم وزراء، ومشايخ، وكتّاب، ومؤرخون، وباحثون، وأساتذة، ومعلمون، وشعراء، ورواة، ومعهم أكاديمية وأميرة، عايشت الأولى بنات الأستاذ الشيخ فعلمت عظمته ومنهجيته التربوية القويمة، وتأملت الثانية في أوجه الشبه بينه وبين أبيها في المحيا والخصال والممات.
ثمّ شاء الله أن يرتحل الأستاذ الشيخ دون تعب وإتعاب بعد أن أُغمي عليه عصر يوم السبت غرة المحرم عام (1441)، وظل راقدًا في غيبوبته حتى توفي يوم الثلاثاء الرابع من الشهر الحرام ذاته، وصلى عليه جمع حاشد عصر الأربعاء، وقدم إلى لقاء مولاه بعد أن ترك آثارًا من بنيه وكتبه، وخلّف أجيالًا من طلابه وتلاميذه، وأبقى ثمارًا من حسناته لمجتمعه القريب والبعيد، ولعلّه أن يكون من الوافدين على الرحمن الرحيم بقلب سليم، وجهد عظيم في الذود عن العربية وعلومها وآدابها.
وفي مبادرة د.إبراهيم التركي إلى الكتابة عن والده، واستكتاب إخوانه، وأصهاره، وأصدقائه، وطلابه، وجلاسه، ومن عرفه، قدوة عملية جديرة بأن يتخذها الأوفياء مثلًا وطريقة متبعة؛ فما أكثر ما يتراخى أبناء الراحلين الكبار وطلابهم وأصحابهم، حتى يموت جلّ من عاصرهم وتعامل معهم، أو يدركهم النسيان تحت وطأة المرض وتفلت الذاكرة، أو يصعب الوصول إليهم، فيضيع شيء كثير من أخبار الأكابر والمرويات عنهم، وكم فقدنا من مآثر ومفاخر طواها النسيان، أو علاها التراب حتى أخفاها بسبب التأجيل والتلبث في غير موضعه، والله يعيذنا من التسويف والجحود والكسل.
** **
- أحمد بن عبدالمحسن العساف
@ahmalassaf