د.محمد بن عبدالرحمن البشر
ما قبل التاريخ، سنقف قليلاً عند المدن في المشرق وعلم الآثار هو الأداة المتاحة لمعرفة ما قبل التاريخ حيث لا توجد نصوص يستشف من خلالها طبيعة الإنسان، وطريقة تفكيره، وأسلوب معيشته، فإنسان الغابة، أو إنسان الكهوف لم يشكل مجتمعاً بشرياً، ولم يشيد مدينة، وظل يقتات مما تجود به الطبيعة دون عناء، فهو يلتقط ما يمكنه مضغه وبلعه، ويصطاد ما يمكنه صيده من الحيوانات المتوفرة، والكثيرة في بيئته، وفيما بعد أصبح مضطراً إلى تجمع بشري لحماية نفسه من الحيوانات.
والإنسان غير المكتمل الانتصاب الذي عاش قبل مائة وخمسين ألف سنة حتى قيل خمسين ألف سنة ربما استخدم بعض الحجارة لصيد ما يحتاجه، حتى جاء الإنسان العاقل مكتمل النمو ليحاول أن يصنع شيئاً بإدخال بعض التحسينات على ما يتوفر لديه من حجارة لتسهل عليه الصيد، لهذا العصر لاسيما بعد انحسار الجليد الأخير الذي كان طاغياً على الأرض قبل مائة وخمسين ألف سنة، ومن ثم أخذ في التقلص رويداً رويداً، ليزول قبل عشرين ألف عاماً، وإن كان السبيليون الذين عاشروا في الفترة قبل ستة عشر ألف سنة، حتى تسعة آلاف سنة، قد كونوا مجتمعات بشرية، وأدخلوا بعض التحسينات على أدواتهم، فأصبحت مركبة، كوضع نصل للإمساك بالحجارة التي تستخدم أداة للأعمال اليومية.
ظل الإنسان في المشرق غير محتاج إلى الزراعة، وبدأ في تكوين مجمعات بشرية، تعتمد على الصيد البري، والبحري، والالتقاط، لكنه وخوفاً من الأعداء البشريين، أو الحيوانات المفترسة، فكر في حماية مجتمعه بوضع أسوار من الحجارة، يعيش داخلها، وهذه بداية تكوين المدن في المشرق وغيره.
تدلنا الاكتشافات الأثرية المتاحة إلى أن مدينة أريحا الفلسطينية هي أقدم المدن، وأنها كانت تضم نحو ألفي نسمة ومحاطة بسور من الحجارة، يبلغ ارتفاعه أربعة أمتار، وعرضه نحو ثلاثة أمتار، وهذا يعني أنه أصبح هناك مجتمع مركب من عدد من العائلات التي تعيش مع بعضها في مكان واحد، وربما تتشارك في الحصول على قوتها من الصيد أو الالتقاط قبل بدء الزراعة.
وهنا يمكننا أن نتكلم عن مدينة، واللغات السامية بما فيها العربية والفينيقية والأكادية والآشورية والعبرية والآرامية والسريانية وغيرها، كانت ذات جذور متشابه وهي السائدة في المنطقة، والأكاديون يطلقون على المدينة، «علو» وهي صيغة جميع لكلمة خيمة، وتعطي دلالة على أن المجتمعات آنذاك تسكن في أكواخ بسيطة تبني مما يتوفر من مواد على شكل خيمة، وذلك بعد أن ترك سكن الغابة والكهف.
هناك تسميات أخرى تطلق على أوائل المدن في حقبة ما قبل التاريخ بعضها مشتق من جذور لغوية تعنى في صورتها «يحصِّن» وبعد أن برزت الحضارة المصرية، فيما بعد ثلاثة آلاف قبل الميلاد، يعني في الألف الثاني قبل الميلاد، أصبح هناك تاريخ مكتوب، ونص يمكن قراءته، وقد أطلق المصريون الأوائل على المدن الموجودة في فلسطين اسم «وونوت»، وفلسطين ذاتها كان اسمها القديم «راخو»، أما كلمة «وونوت» فهي تعني باللغة المصرية القديمة «الأحواش المحصنة» ومن هنا نجد أن التسميات كانت مشتقة من الوصف، وليس من أسماء أعلام، أو معابد أو نحوه، وكانوا محقين في وصفهم، فأريحا أقدم مدن العالم، كانت تقبع على تلة، لهذا أخذت اسم «علو» وتحصين عند الساميين الذين يقطنون العراق والشام والجزيرة العربية، وهي الأحواش المحصنة لأنهم اعتادوا أن يضعوا حول أحواشهم حواجز وأسوار بسيطة مما يتوفر من حجر وخشب، لكن المحير حقاً لماذا يكون ارتفاع سور أريحا أربعة أمتار وعرضه ثلاثة أمتار، وهل يحتاجون إلى ذلك التحصين، فمن المؤكد أنه للحاجة وليس للتباهي، فلا يوجد في حقبة ما قبل التاريخ مجال للتباهي في المدن، فالخوف من الأعداء البشريين، والحيوانات المفترسة هو الأساس في التحصين.
لم تصمت تلك المدينة العريقة، أو غيرها من المستوطنات البشرية البسيطة حولها لموجة الجفاف الطويل مع الألف السادس قبل الميلاد، فانكمشت، وتبدد سكانها وأصبحت في الألف الخامس قبل الميلاد مجرد أرض تابعة لسوريا العريقة، في ذلك الوقت لم تقم الحضارة المصرية بعد، وربما تسرب بعض سكانها عبر الصحراء إلى مصر، حيث النيل والماء ينساب في زهو وثبات.
لقد لعب انحسار الجليد قبل عشرين ألف عام، وكثرة الأمطار، في بزوغ الجمعات البشرية، وظهور المدن واهتداء الإنسان في المشرق إلى الزراعة، وبعد ذلك عمل الجفاف على هجر المدن، والبحث عن مكان يقتات منه الإنسان ليكمل مسيرته في الحياة.