زكية إبراهيم الحجي
عندما تكثر الفرضيات، وتتصادم المحاجات مع بعضها حول حقيقة ما، والغوص في أدق تفاصيلها بشكل مبالغ فيه رغم كثافة الضبابية التي تكتنفها، فإن الأمر ينتهي بها رويدًا رويدًا إلى التلاشي عبر الزمن، وتصبح ضحية من ضحايا التاريخ، وفي حكم المجهول. والتاريخ القديم بشكل عام التصق به الكثير من الحقائق التي لفَّها شبح من غموض انتهى
بصمت غريب، ثم غياب.. وكأن لعبة أوراق التاريخ توزَّع، ويُعاد توزيعها مرات ومرات وفق أهواء البشر إلى أن تحترق، وتتحول إلى كومة رماد. ولعل الصمت الغريب على فقدان الكتاب المئة والثاني عشر للفيلسوف والمؤرخ الروماني «تايت ليف» الذي سرد من خلال صفحاته تاريخ روما ضمن 142 كتابًا، ومن ضمنها الكتاب الـ112 الذي فُقد ولم يُعثر عليه، هو دليل قاطع على النزعة الإنسية العدائية المتمثلة في تبديد وإتلاف أو حرق الممتلكات الثقافية، خاصة الكتب والمخطوطات التي تمثل الواجهة الثقافية التاريخية لحضارات الأمم السابقة.
مطاردة الكتب عبر العصور وحرقها، ودفن الميراث المعرفي والكنوز الثقافية الثمينة، وإجهاض ذاكرة التاريخ.. كل ذلك كان مرتبطًا بالحروب والمعارك. وعلى مَرّ التاريخ التهمت المحارق المتعددة التي اشتعلت عمدًا في مناطق الصراع أعدادًا لا تُحصى من مكتبات عامرة بالكتب النفيسة، ولفائف المخطوطات، ورقاع الجلد التي كانت بمنزلة مدونات تحفظ ما يخطه الإنسان القديم قبل اكتشاف الكتابة على الورق.
تنهار حضارة، وتسود أخرى، ولا غرابة في ذلك.. الغرابة أن تكون الحروب وقودًا لحرائق تلتهم عصارة ذاكرة حضارات الأمم وإرث المكتبات الزاخرة بأنفس الكتب لأشهر العلماء والفلاسفة.. وكتب قدامى الأطباء، وأبرز علماء الفلك، وغيرها من جواهر الكتب المعرفية والتاريخية وكنوز الثقافة الفكرية.
تأخذني محارق المكتبات إلى قصة البداية.. وقصة البداية تذكر أن مولد الكتابة وبروز المكتبات بزغ في عهد الحضارة السومرية التي نشأت في العراق، وأن أولى الحرائق التي طالت الكتب والمكتبات عرفتها العراق. ومن المفارقات العجيبة، ولكن ليست بالغريبة، أن ذلك يحدث في العراق الذي اعتاد على المواجع والآلام والمفارقات المفجعة.. وتتواتر محارق المكتبات عبر فصول التاريخ لتتمثل تجاعيد الحزن في مسيرة الحضارات القديمة يوم إحراق أشهر المكتبات، مكتبة دار الحكمة التي أسسها هارون الرشيد في بغداد، وكانت تضم كتب التراجم والتراث الإسلامي والسير والفلسفة والطب والأدب. أُحرقت منارة الفكر الإسلامي على أيدي المغول، وأُلقيت الكتب ولفائف المخطوطات التي لم تصلها ألسنة اللهب في نهر دجلة؛ لتتحول مياه النهر إلى السواد بفعل مداد الكتب. غيض من فيض في سلسلة محارق طالت أنفس الكتب عبر فصول تاريخ حضارات الأمم القديمة إلا أن هذا لا يعني أن عصرنا الحالي لم ينل حظوة الاعتداء على رفوف المكتبات وحرق ما يعتليها من كنوز المخطوطات النادرة والمؤلفات الثمينة. ويكفي شاهد واحد، يمثل رماد منارة الثقافة في بوابة الصحراء «تمبكتو». فتتار مالي مروا بها، وأشعلوا النيران في مكتباتها الثرية بكتب فريدة، ومخطوطات نادرة، ومراسلات مزخرفة بماء الذهب. ثروة بشرية، وكنوز ثقافية، لم تنجُ من أصابع التعسف. ووحدهم الباحثون يدركون فداحة الخسارة.