د. محمد عبدالله العوين
سقطت القسطنطينية حاضرة الإمبراطورية البيزنطية في يد العثمانيين بقيادة محمد الفاتح في 20 جمادى الأولى 857هـ 29 مايو 1453م وسمي (صاحب البشارة) ولقب بالفاتح؛ لأنه انطبق عليه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (لتفتحن القسطنطينية؛ فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش).
وكانت محاولات مبكرة لفتح هذه المدينة في خلافة معاوية لم تنجح، ثم خلافة بني العباس في عهد المعتصم لم تساعده الظروف على تحقيق حلمه. حاز محمد الفاتح هذا الشرف، فمنح النصارى حرية العبادة وحافظ على حقوقهم الدينية، واشترى منهم الكنيسة والأرض المحيطة بها من ماله الخاص، فلم يعدها غنيمة من غنائم الفتح، وكتب وثيقة بذلك.
وربما تأسى الفاتح بصنيع عبد الرحمن الداخل 138هـ حين اشترى من نصارى الأندلس كنيسة قرطبة وعوضهم أرضاً مقابلة لها ليبنوا عليها كنيسة لهم؛ فكانت الكنيسة والمسجد متقابلتين وبقيا شاهدين على ذلك التسامح إلى يومنا الحاضر، واستمرت عمليات التحويل من كنائس إلى مساجد على هذا النحو بالتصالح على مبالغ مالية وكتابة وثائق بذلك، ومن مساجد إلى كنائس بدون رضا ولا شراء ولا وثائق في عديد من البلدان الأوربية التي سقطت فيها الحكومات الإسلامية؛ كالأندلس في كل جوامعها بقرطبة وأشبيلية وغرناطة وملقا وغيرها، وبالجزائر إبان الاحتلال الفرنسي الذي حول جامع الجزائر إلى إسطبل للخيول، أو تهدم وتكون مكباً للنفايات - مع الأسف - كما في المجر ودول البلقان وقبرص وصقلية وغيرها.
لقد دوَّن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تجربة رفيعة المستوى في التعامل الراقي مع أصحاب الديانات الأخرى، وعبر بالعهدة العمرية عن روح الإسلام العظيمة التي تراعي حرية المعتقد كما يكفلها الإسلام {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}، و{أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ}، فليس مقبولاً في حالة الانتصار الانتقام من المهزومين بتغيير أماكن عبادتهم، لأن الانتقام لا محالة سيحدث لاحقاً، وسيرد المنتصرون بعد ذلك الصاع صاعين للمهزومين.
ما مر في الحقب التاريخية من الصراع الإسلامي المسيحي ممثلاً في ذروته الحروب الصليبية الانتقامية ثم في الاستعمار الأوربي للعالم العربي والإسلامي بعد سقوط بني عثمان لا يصح أن تعاد جذوته من جديد بعد أن تبيَّن للعقلاء فداحة ما جرت إليه تلك الحروب والصراعات في كل القارات من مآس وآلام وعداوات وأحقاد في القديم والحديث.
لقد وصل الإنسان اليوم إلى بناء مدوّنات حقوق الإنسان ومنها احترام الأديان وأماكن العبادة والمحافظة عليها وحمايتها، وهي قيم تمثِّل أخلاق الإسلام ومبادئه، وما أقدم عليه أردوغان بإعادة مرحلة تاريخية غابرة في القرون الوسطى تحيي جذوة الصراع التي تومض تحت الرماد، فقد يقدم النصارى في عديد من دول أوروبا على إغلاق جوامع كبيرة أو الاعتداء عليها أو حرمان المسلمين من بناء مساجد جديدة.
ليكف أردوغان عن سلوكه المتعجّل الذي يهدف من ورائه إلى تحقيق مكاسب انتخابية والتغطية على جرائمه التي يرتكبها في سوريا والعراق وليبيا.