أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: اليوم يوم الجمعة الموافق 26 - 11 - 1441 هجري، ويناسبه أن نسبح الله سبحانه وتعالى بالقول والاعتقاد؛ ولقد طرح في ذلك ما لا ضرورة له؛ وهو (هل الاسم هو المسمى نفسه، أو غيره؟!؛ وهذا التساؤل من علم الكلام التي نشأت عن تفكير اعتزالي، وقد عني بها كبار العلماء من أمثال الإمام (أبي جعفر محمد بن جرير الطبري)، و(أبي محمد ابن حزم)، و(البطليوسي)، وغيرهم رحمهم الله تعالى، والصواب أن الاسم غير المسمى، وأن الاسم دال على المسمى.. وحديثي اليوم عن بيان سر الأمر بالتسبيح باسم ربنا سبحانه وتعالى في آية كريمة لم يأت فيها معمول الفعل مباشرة؛ فلم يرد: سبح ربك، وإنما قال سبحانه وتعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (سورة الأعلى: 1).. مع مناقشة آراء بعض العلماء حول ذلك.
قال أبو عبدالرحمن: وجاءت هذه المسألة فرعاً عن قضية الاسم والمسمى، فقد احتج من قال الاسم هو المسمى بقول الله سبحانه وتعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} (سورة الرحمن/ 78)، وقوله سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} (سورة المزمل/ 8)، وقال سبحانه وتعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (سورة الأعلى: 1).. ونوقش هذا الاستدلال ببيانين متلازمين.. البيان الأول أن المأمور المبين كلام ربه رسول الله (عندما امتثل أمر ربه) سبح المسمى، ولم يسبح الاسم.. ولو فهم عليه الصلاة والسلام أن الاسم هو المسمى لسبح الاسم بإطلاق، أو سبح الاسم تارة وسبح المسمى تارة.. وإنما سبح المسمى بإطلاق.. قال (ابن قيم الجوزية) عن امتثال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولو كان الأمر كما زعموا لقال: سبحان اسم ربي العظيم.. ثم إن الأمة كلهم لا يجوز (قال أبو عبدالرحمن: إذا لم يكن في الكلام سقط فالفعل «يجوِّز» بتشديد الواو المكسورة) أحد منهم أن يقول: عبدت اسم ربي، ولا سجدت لاسم ربي، ولا ركعت لاسم ربي، ولا باسم ربي ارحمني.. وهذا يدل على أن الأشياء متعلقة بالمسمى لا بالاسم).. انظر كتاب (بدائع الفوائد) 1-21.. وعن امتثال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ربه (بأن سبح ربه وقد أمر بالتسبيح باسم ربه) قال (الإمام أحمد): حدثنا وكيع: حدثنا إسرائيل: عن أبي إسحاق: عن مسلم البطين: عن سعيد بن جبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ (سبح اسم ربك الأعلى) قال: سبحان ربي الأعلى، وهكذا رواه (أبو داوود): عن زهير بن حرب: عن وكيع به.. وقال: خولف فيه وكيع.. رواه أبو وكيع، وشعبة: عن أبي إسحاق: عن سعيد: عن ابن عباس (رضي الله عنهما) موقوفاً، وقال (الثوري): عن السدي: عن عبد خير قال: سمعت عليا قرأ (سبح اسم ربك الأعلى)، فقال: سبحان ربي الأعلى، وقال (ابن جرير): حدثنا ابن حميد: حدثنا حكام: عن عنبسة: عن أبي إسحاق الهمداني: أن ابن عباس (رضي الله عنهما) كان إذا قرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} يقول: سبحان ربي الأعلى.. انظر (تفسير ابن كثير) 1-591 - 592/ دار ابن كثير.. والبيان الثاني عن إيضاح السر في أمر الله بتسبيح الاسم مع أن المراد تسبيح المسمى، وذلك بأدلة التصحيح والترجيح.. وبهذين البيانين، وبأدلة هذين البيانين يقوم برهان واحد (وهو البرهان المركب) على أن المراد تسبيح المسمى بالسنة القولية والفعلية، وبهذا البرهان تسقط الدعى على النصوص المذكورة بأن الاسم هو المسمى، وهذا برهان لإزالة شبهة، وليس برهان تقرير حقيقة.. والفارق بين البرهانين أن الثاني برهان إثبات، والأول برهان دفع؛ أي أن برهان الإثبات في هذا الموضع لإثبات أن المسمى غير الاسم، وبرهان الدفع لنفي دلالة تلك النصوص على أن المسمى هو الاسم. قال أبو عبدالرحمن: وقد قررت هذين البرهانين على افتراضهم أن الصيغة وردت بتسبيح الاسم، وأما البيان الثاني عن سر الأمر بتسبيح الاسم والمراد المسمى: فقد اختلفت كلمة العلماء في ذلك؛ فقال بعضهم: إن التسبيح للمسمى؛ فوجب التسبيح للاسم بالتبع كما يقال: سلام على الحضرة العالية، والباب السامي، والمجلس الكريم، ونحو ذلك، ورده (ابن قيم الجوزية) بوجهين: أولهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفهم هذه التبعية؛ فقال: سبحان ربي، وثانيهما: أنه إذا صح تسبيح اسم الله وجب تكبيره وتحميده وتهليله؛ فيقال: الحمد لاسم الله، ولا إله إلا اسم الله.. وهذا لم يقله أحد.. انظر كتاب بدائع الفوائد بتصرف واختصار غير مخلين بالمعنى المراد.. وإنما قصدت بذينك تسهيل العلم وتفهيمه.. وذهب (ابن قيم الجوزية) إلى أن سر التسبيح بالاسم عدم إخلاء اللسان من النطق بالتسبيح؛ لأن التسبيح نوع من الذكر، ومحل الذكر الحقيقي القلب؛ بدليل أن ضد الذكر النسيان؛ فلا يفهم من الأمر بالتسبيح غير تسبيح القلب دون اللسان، والله سبحانه وتعالى أراد من عباده الأمرين معًا، فأقحم الاسم تنبيها على هذا المعنى!!.. ثم قرر هذا المعنى الذي اختاره بتفريق بين ذكر القلب وذكر اللسان؛ فقال: (لأن ذكر القلب متعلقه المسمى المدلول عليه بالاسم دون ما سواه، والذكر باللسان متعلقه اللفظ مع مدلوله؛ لأن اللفظ لا يراد لنفسه.. فلا يتوهم أحد أن اللفظ هو المسبح دون ما يدل عليه من المعنى).. انظر بدائع الفوائد 1/ 21 - 22، ولم ينقل قط (لا من النص الشرعي، ولا من سيرة الصحابة والتابعين وأتباعهم) تسبيح اسم الرب، وإنما التسبيح للرب باسمه مثل: سبحان الله، وسبحان ربي، وسبحان الملك القدوس؛ وجعل هذا الرأي صادرًا عن شيخ الإسلام؛ فقال: (وعبر لي شيخنا (أبو العباس ابن تيمية) قدس الله روحه عن هذا المعنى بعبارة لطيفة وجيزة؛ فقال: المعنى سبح ناطقًا باسم ربك متكلما به.. وكذا (قال أبوعبدالرحمن: أخشى أن يكون في الكلام سقط، فإن كان تاما فالكلام مختل؛ لأن ما قبل قوله: (وكذا) هو نفسه ما بعد ( وكذا)، وكلا الجمتين عن التسبيح باسم الرب.. وإنما يستقيم لو قال: (اذكر ناطقا باسم ربك، وكذا سبح) سبح اسم ربك.. المعنى سبح ربك ذاكرًا اسمه، وهذه الفائدة تساوي رحلة.. لكن لمن يعرف قدرها!).. انظر كتاب (بدائع الفوائد) 1/ 22. مكتبة المؤيد/ تحقيق (بشير محمد عيون).
قال أبو عبدالرحمن : ها هنا وقفات: الوقفة الأولى: أننا (نحن المخلوقين الضعفاء) ليس لنا فعل في تسبيح الرب سبحانه، وليس لنا فعل في عدم تسبيحه.. والتسبيح التنزيه.. فلا نملك له سبحانه نفعاً يكمل به تنزهه؛ إذ لا نستطيع أن نضيف إلى علمه شيئاً لم يعلمه، فنكون بفعلنا نزهناه عن الجهل، ولا نملك له سبحانه ضراً؛ إذ لا نستطيع أن نغيب عن علمه شيئاً فيعتريه بذلك جهل ينافي التسبيح.. بل هو سبحانه متنزه له الكمال المطلق، وهو المبرأ من كل نقص بإطلاق؛ فالكمال حقيقة وجوده سبحانه وتعالى في علمه وحكمته وحياته وقدرته وسمعه وبصره .. إلخ.. إلخ.. هو سبحانه وتعالى هكذا قبل أن يخلقنا، وإنما تسبيحنا له عقيدة نعتقدها، وقول نقوله، وفعل عبادي يصدر عن عقيدتنا، وليس فعلاً ينال كماله بإتمام أو ثلم.. إذن تسبيحنا لربنا سبحانه وتعالى أن ندعوه بأسمائه الحسنى، فدعاؤه بها تسبيح كما في قول الله سبحانه وتعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (سورة الحاقة/ 52).. وقوله في تفسير الجلالين عن الباء قبل (اسم): زائدة، من الخطإ.. وقد بينت في كتابي (التحرير والتقرير) على تفسير الشوكاني، وفي كتيبي عن واو الثمانية، وفي كثير من المباحث: أنه لا وجود لزائد في لغة العرب ألبتة.. فكيف يكون ذلك في كتاب الله؟!.. وتسبيحنا لاسم ربنا له ثلاث دلالات: الأولى: أن نعتقد مدلوله كمالاً وتوحداً، فلا نلحد فيه بتأويل بلا برهان، أو تعطيل، أو تشبيه، والثانية: أن لا ندعوه باسم غير توقيفي ليس له سبحانه وتعالى.. والثالثة: أن تسبيحنا قولاً وإضماراً مضاف إلى اسم ربنا.. لا نستطيع أن نسبح ربنا بغير ذلك، إذ لا فعل لنا (كما أسلفت). الوقفة الثانية: أن سبح ربك بمعنى أعتقد ما يليق بجلاله وعظمته، وادعه بأسمائه وصفاته مسبحة.. أي منزهة.. وإلى لقاء قريب في يوم الجمعة القادم مع بقية الوقفات إن شاء الله تعالى، والله المستعان.