خالد الغيلاني
يكاد يكون الفعل الإنساني واحدًا رغم تعدد الأيدلوجية فالذي يقرأ التاريخ الديني سواء في اليهودية أو المسيحية أو حتى الإسلام يجد صورًا متكررة في حركة الأنساق المعرفية تتراوح بين الانغلاق والانفتاح فمفهوم الوسطية مثلاً لا يقتصر تناوله على الإسلام بل هو موجود في المسيحية أيضًا ومن أكثر المصطلحات انتشارًا الأرثوذكسية وتعني التزمت الذي يأبى كل نزعة تجديدية تخرج عن المألوف ويتشكل منها العقلية الدوغمائية الرافضة لأي شكل آخر من الأفكار خارج إطارها واضعةً له في حيز الممنوعات الفكرية، ومصنفةً لغيرها من المخالفين في دوائر اللاعقائديين واللاإيمانيين، حتى لو كانت منطلقات هذه العقلية من نتاج فهم بشري. وبوجه عام فإن هذه المبادئ التي تحكم العقلية الدوغمائيّة توجد في الحالة الإسلامية والمسيحية واليهودية، لأنا كما قلنا آنفًا إن هذه المصطلحات بما ينضوي تحتها من كم معرفي سواء في مصطلح الوسطية أو مصطلح الأرثوذكسية هي صور من التعامل مع النصوص والآخرين لأننا لا نستطيع أن نفصل النص المقدس عن الجزء البشري ومن يقرأ التاريخ المسيحي أو الإسلامي يجد المشابهة العجيبة سواء في الحكم بالزندقة أو الهرطقة أو تحريق الكتب فهذا الفقيه ابن حزم الذي حرقوا كتبه فقال للمحرقين:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي
تضمنه القرطاس بل هو في صدري
إلى أن جاء الذهبي تلميذ ابن تيمية وأنصفه وجعل مؤلفاته من الكتب المعتمدة في الفقه، وكما حصل مع ابن حزم حصل مع الفيلسوف الفقيه ابن رشد، ومن هذا الباب أيضًا ما وجد في عهد قريب من الدعوة إلى سجن من يقول بتعليم المرأة وهذا يذكرنا بحرمان المرأة في أوروبا من التعليم حتى كانت عالمة فيزيائية فيما بعد عصر التنوير في أوروبا في باريس تدعى (SOPHIE GERMAIN)، (1776 -1831) تضطر أن توقع مراسلتها للعلماء في الجامعات الفرنسية باسم رجل لأن المرأة كانت ممنوعة من دخولها. إن التعامل مع الإنسان يحتاج إلى شيء غير التشدد والضغط اللذين يولدان مكونًا غريبًا، يمر بمراحل آخرها الإلحاد بمراتبه المختلفة كنقيض للتدين أو التنوير وهو ما سنحاول أن نلقي الضوء عليه في الحالة الغربية بحكم تقدم التجربة فلا يمكن لنبتة معينة أن تنبت دون وجود بيئة مناسبة تغذيها وتهيئ لها الفرصة للنمو أو التجذر حتى تصل لعمق المجتمع الذي تعيش فيه.
الخلفية التاريخية
هذا الانقلاب الرهيب على الدين الذي تمثله الكنيسة في أوروبا لم يأتِ من فراغ وعلى كل دارس أن يستجلي الحقائق من مكامنها ويدرس التطور الفكري في مراحله المختلفة ويطلع على الأسباب الحقيقية التي وصلت بنا إلى هذه المحصلة. ربما أفضل مقدمة لما نحن فيه ما ذكره أسامة بن منقذ (1095- 1188) في كتابه الاعتبار نقلاً عن صاحب طبرية (كان عندنا في بلادنا فارس كبير القدر فمرض وأشرف على الموت، فجئنا إلى قس كبير من قساوسنا قلنا تجيء معنا حتى تبصر الفارس فلانا، قال: نعم ومشى معنا، ونحن نتحقق أنه إذا حط يده عليه عوفي، فلما رآه قال أعطوني شمعًا فأحضرنا له قليل شمع وعمله مثل عقد الإصبع وعمل كل واحدة في جانب أنفه، فمات الفارس، فقلنا له: قد مات، قال: نعم، كان يتعذب، سددت أنفه حتى يموت ويستريح.
ويقص علينا التاريخ الأوروبي أيضًا أن البابا غريغوري الخامس عندما طرد الملك روبرت من الكنيسة كان الناس والأطفال يهربون منه عندما يقع نظرهم عليه حتى أن خدم الملك كانوا يرمون له الأكل من النافذة حتى لا تلد الملكة إوزة، ويقومون بإحراق الأوعية والكؤوس التي لمسها، ففترة القرون الوسطى كانت مليئة بالخرافات المسيحية مع تغوّل الكنيسة وهيمنتها على نواحي الحياة كلها، حتى كان يصل الصراع أحيانًا بين الباباوات والبلاط الملكي، ويضطر الملك للخضوع مرغمًا لسلطة البابا.
ما هو التنوير حسب المفهوم الغربي؟
من الصعب إعطاء تعريف محدد دون النظر إلى التدرج التاريخي للفكر الإنساني الغربي الذي انتهى به إلى هذا المفهوم. فإذا أردنا أن نحدد أهم مرحلة في الفكر الغربي فإنها ليست مرحلة النهضة، بل هي مرحلة العصور الوسطى، حيث كانت فيها الولادة من جديد لثقافة العصور القديمة التي تشكلت فيها المقدمات لعصر النهضة، حيث شهدت بداية التعامل بين المسيحيين الأوائل والمفكرين الهلنيين. والذي قد يتبادر للذهن أن اللاهوت المسيحي من خلال هذا التواصل هو من أحكم السيطرة على الفلسفة، إلا أن الواقع يشهد أن الفلسفة الهلينية هي من أضرت بالمسيحية، فعقيدة الثالوث -على سبيل المثال- صيغت بلغة فلسفية هلينية، وقد أدى إلى هذا فكرة سادت في تلك الحقبة أن التقاليد الفلسفية هي من خلق الله أيضاً، فليس هناك غضاضة أو خشية من التعبير عن المعتقدات المسيحية بعون من الفلسفة، وإذا رجعنا إلى نشأت المسيحية فإن بولس الرسول المتوفى (64)م الذي كان يتكلم اليونانية بطلاقة وأهم شخصية في تاريخ المسيحية بعد عيسى كان متأثرًا بالفلسفة اليونانية بدرجة كبيرة. واستمرت الحال تقريباً كما هي عليه حتى كان القرن الثالث عشر، واكتشاف أرسطو من قبل العالم المسيحي، وذلك عن طريق الاحتكاك بالعرب من خلال الفيلسوف العربي ابن رشد (1126- 1198)، وكان أكبر فلاسفة تلك العصور هو توما الأكويني الذي طوب قديسا بعد موته وخلع عليه البابا ليو الثالث عشر وصف حامي المدارس الكاثوليكية عام 1880، ويرى بعض الرشديين أن الأنظمة الفلسفة القائمة في ذلك الوقت لم تكن أرسطوية تماماً، فأرسطو كما ينقل عنه يصف الديمقراطية الإغريقية بشكل مغاير، ومن يقرأ كتاب (الخلاصة ضد الكفار) لتوما الأكويني يخرج عند قراءته بتصور أن أرسطو كان مسيحيًّا خالصًا. وفي اعتماد الكنيسة على الآراء الفلسفية الأرسطية في تبرير قوانينها ما قد يفسر لاحقًا فتح الباب أمام فلاسفة أذكياء لانتقاد الكنيسة في ظرف وعي جماهيري بدأ يأخذ حيزًا كبيرًا، وهو ما أزعج الكنيسة، مما حدا بتوما الأكويني إلى أن يقف موقف المدافع عنها، مستخدمًا نفس السلاح الذي وجّه به المنتقدون سهامهم للكنيسة، مذكرًا بموقف الغزالي في كتابه التهافت، وابن تيمية في كثير من مؤلفاته الفلسفية في دحض آراء المخالفين، وإذا نظرنا إلى الأسس البنيوية التي قامت عليها المسيحية، نجد أن الفلسفة قد امتزجت بها امتزاجًا كاملاً، وتداخلت معها تداخلاً ملحوظًا حتى أصبحطريقاً في فهم المسيحية، وأكثر من ذلك، مشرعنةً لتصرفاتها، ولهذا فلن يكون غريبًا أن يأتي فلاسفة إنسانيون ينقضون بنويتها غير المكتملة، فاستناد الكنيسة إلى القانون الفلسفي في تبرير قوانينها وجعل نفسها المفسر الوحيد مع كونها أداة في نفس الوقت لإخضاع الشعوب للحكام المدنيين -كما جاء في (1-2 ROMANS13): (لتخضع كل نفس للسلطات العليا. فلا سلطة إلا سلطة الله وسلطاننا لذلك كل من يقاوم السلطة يقاوم قضاء الله ومن يقاوم يجلب اللعنة لنفسه)- خلق نوعًا من التناقض في الكنيسة بين ما تدعيه وما تفعله فكان حريًا أن يجعلها محل النقد، ومع بروز عوامل النهضة تلاشت تلك الفلسفة التي نشأت في العصر الوسيط حتى اندثرت تقريبًا نظرًا لإخفاقها في متابعة التطور الذي شمل نواحي الحياة.
بداية التغيير في أوروبا
يمكننا من ناحية فلسفية أن نقسم مراحل الفكر الفلسفي في أوروبا إلى ثلاث مراحل، وكلها كان يطلق عليها الفلسفة المدرسية:
1- الفلسفة المدرسية المبكرة (400- 1200) وكان الفكر السائد يتمثل في فكر أوغسطين والأفلاطونية الجديدة.
2- الفلسفة المدرسة العالية (1200 إلى أوائل القرن الرابع عشر) عهد الأنظمة والتأليفات العظمى.
3- الفلسفة المدرسة المتأخرة (من أوائل القرن الرابع عشر إلى عصر النهضة) حيث كان الفيلسوف الرئيسي لتلك الفترة الإنجليزي وليام الأوكامي الذي أعلن أن الإيمان والعقل مختلفان اختلافًا جوهريًا، مدافعًا عن كل ما هو تجريبي حسي، وهذا خلاف ما كان يدعو إليه توما الأكويني من تطابق العقل والإيمان، وهو ما كان موجودًا في المرحلة الأوغسطينية، حيث كان هناك نوع من الاتفاق والتواؤم بين العقل والإيمان حتى نأتي على عهد المدرسية العالية في القرن الثاني عشر والثالث عشر الميلادي وظهور بوادر التغيير الفكري التي بدأت تطرأ على أوروبا، وبعضهم يجعل سنة 476م وهي سنة سقوط الإمبراطورية الرومانية حدًّا فاصلاً بين العصور الوسطى والقديمة وسنة سقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين، وهي السنة التي انتهت فيها حرب المائة العام بين إنجلترا وفرنسا حدًا فاصلاً بين العصور الوسطى والحديثة، فعندما سقطت القسطنطينية في يد الأتراك حدثت حركة إحياء العلوم في أوروبا بانتقال عدد كبير من العلماء اليونانيين إلى أوروبا أضاء الطريق لظهور النهضة الأوروبية.
ويمكن أن نضيف لذلك أيضاً سقوط الأندلس على مراحل حتى سقوط غرناطة ودخول فلسفة ابن رشد كما مرّ معنا مؤذنةً بولادة عصر جديد من العقلانية حتى كان من أتباع ابن رشد من يعرف بمارسيليوس البدواني (1342- 1275) الذي كان معارضًا للبابا، وفي نفس الوقت يرأس جامعة باريس وتعد أطروحته (حامي السلام) الأكثر ثورية التي جرت عليه الحرمان الكنسي. ويمكننا القول إن الثورة على الأخلاق المسيحية بدأت بالفعل مع ازدياد الرغبة في المعرفة في أوروبا، حيث بدأت العلوم تظهر شيئًا فشيئًا على مراحل زمنية متتابعة فنشأت الجامعات، وبدأ الاتجاه صوب الأدب الإغريقي، ونشأت الحركة الإنسوية برعاية الأمراء والتجار المحبين للآداب والفنون، وصاحب ذلك أيضاً فائض في الإنتاج الاقتصادي ونمو سكان المدن، واتسعت الثقافة بعد أن كانت مقتصرة في السابق على الكهنة، كانت كل هذه الأمور مقدمات لعهد التنوير. ومما أخذه الأوروبيون عن الإغريق في تلك المرحلة أن اللذات غير ضارة والميول الطبيعية ليست من الشيطان فلا داعي لاعتبارها ذنبًا، وهنا نلحظ بداية الصدام الناعم بين الفكر المسيحي الكهنوتي وبين الفكر الجديد الذي بدأ يولد من خلال نظرة جديدة للحياة التي يمكن أن نعتبرها مقدمة لبروز ما يعرف ما يسمى بالعلمانية، فكما في دائرة المعارف البريطانية التي كانت أكثر صراحة في تعريف (SECULAR) بأنها حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها. ذلك بأنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في مقاومة الرغبات الدنيوية فوظفت هذه الحركة الاجتماعية (SECULARISM) النزعة الإنسانية التي تهيأت لها الظروف في انكبابهم على ملذات الحياة. لكن القوى التي تمخضت في تلك الفترة والتي ظهرت بوضوح في القرن السادس عشر عاملة على تهديم النظام القديم لم تحدث ثورتها الأساسية في طريقة التفكير الإنساني إلا في القرنين السابع عشر والثامن عشر. ومن تلك القوى في ذلك الوقت ما حصل من الانشقاق البروتستانتي عن الكنيسة الكاثوليكية والأفكار التي حملتها معها من تقديس الحياة والجمال والالتزام بالعمل الجاد، وأن النجاح على الصعيد المادي هو دلالة على نعمة إلهية واختيار مسبق للخلاص، مما أدى إلى تجريد رجال الكنيسة من صفتهم المقدسة وحرمانهم من رمزية الانتماء إلى مقام منفصل، وهو ما وجه ضربة قوية للنظام الأبوي (الكنسي الإقطاعي)، ويمكننا أن نلخص هذهالثورة في كونها نوعاً من الدمقرطة الدينية وكسر الوصاية وتحرير الفرد من التبعية الإيمانية لشخص ما. ومع هذه التغيرات الجذرية في الحياة الأوروبية، أنشأت الكنيسة الكاثوليكية محاكم تفتيشية أحرق من جرائها المئات، متهمين بالزندقة والإلحاد. ولكن مع توسع العلوم التجريبية وبروز مفكرين أمثال ديكارت وبيكون اللذين هاجما الفلسفة القديمة التي كان يتزعمها أرسطو، وأنها لا تعدو تعليمًا خصاميًا لا تقدم أي فائدة، وانصب الاهتمام على المسائل الرياضية وما له علاقة بالحس والتجربة، وهنا بدأ الصدام يبتعد عن الشكل الناعم آخذًا شكلاً آخر، فمن (كوبر نيكس) وكتابه (دوران الأجرام السماوية) إلى قانون الجاذبية مع نيوتن، وقبله اكتشافات جاليليو المثيرة للجدل، كل هذا أعقب أعظم عصر للشك الديني في العالم الحديث، وهو القرن الثامن عشر الذي كان فيه ملك إنجلترا يشكو من أن نصف الأساقفة ملاحدة، وهو العصر الذي أخرج ثلة كبيرة من الفلاسفة كأوجست كونت الذي ذهب إلى أن الحضارة الإنسانية مرت بأدوار ثلاثة:
1- الفلسفة الدينية (المرحلة اللاهوتية).
2- الفلسفة التجريدية (المرحلة الميتافيزيقية).
3- الفلسفة الواقعية أو المرحلة الوضعية، وله تعزى الديانة الإنسانية التي أبدل فيها الخالق بالنوع الإنساني، والمعابد بالمجامع العلمية، والقساوسة برجال العلم. فظهرت عندئذ المبادئ المادية التي تنكر كل ما خرج عن دائرة اختصاص العلم، وبرزت المفاهيم التطورية التي قامت عليها الثورات الأوروبية، فما لا يتطور ينبغي أن يتطور بالقوة، لا شيء يجب أن يبقى على الإطلاق ثابتًا، لذلك لاقت أفكار داروين وماركس ونتيشه ترحيبًا لدى المجموعة التطورية، ويمكننا القول إن الثورة العلمية عمدت إلى تقويض الإيمان بالله في نفوس الناس جعلت الكنيسة تنزوي معها عن الحياة حتى كان القرن الثامن عشر، ومن أشهر فلاسفته في ألمانيا ولف ولسنج، وفي إنجلترا لوك، وفي فرنسا فولتير وبايل ولامتري الذي بلغ المذهب المادي في عصره ذروته في الفلسفة الفرنسية، فقد عزا في كتابه المسمى (الآلة الإنسانية) إلى أن العقل شيء مادي مناقضًا للفلسفة القديمة التي نفت المادة أو قصرتها في أضيق الحدود وقريبًا من لامتري هلباخ (1723- 1789) الذي أنكر كل وجود غير الوجود الطبيعي، وكان يكتب بجرأة تتعدى أصدقاءه وتنشر كتبه دون اسمه خوفًا من الرقابة منها (النصرانية المهتوكة الستر) مع رفضه الشديد للكتابات التقليدية التي تقوم على الخنوع والخضوع للقوى الغيبية، وتعمل على تشجيع الناس على الاستسلام المطلق للجبابرة الأرضيين، وتصدهم عن التفكير باستقلالية، معتبرًا أن القول بأن فكرة الإيمان بالله قيمة أساسية كما هي عند فولتير فكرة جبانة، واستمرت الحال إلى أن كان العقد الثامن من القرن التاسع عشر الذي أعلن فيه نيتشه بعض تخيلاته التي ألقت بظلالها على أوروبا كلها، ولم تلبث المادية أن عادت من جديد في صورتها العلمية، في ظل انحلال فلسفة هيجل الميتافيزيقية على شكل تجارب ومشاهدات تربط بين النفس والجسم، فبُخنر مثلاً زاوج بين المادية والداروينية وكانت ماديته الملحدة أساساً لحركة الفكر الحر في ألمانيا، وقد يكون هذا النتاج الغالي للمادية نتيجة طبيعية للمرحلة السابقة التي تمثلت في النزعة العقلانية عند الفلاسفة المتقدمين، وقد يتلوها مستقبلاً مرحلة أو مرحلتين، لذلك نرى أن المراحل الثلاث التي مرّت بها أوروبا بدأت من سيادة الدين ثم العقل ثم سيادة الحس. وكان الفلاسفة قبل نيتشه ينظرون إلى الأشياء أن لها معنى، فالعالم والتاريخ عندهم عقليان وعادلان، والوجود له معنى وغاية يصل إليهاوهذا العالم الذي أسسه الله منظم يحتل فيه الإنسان مكانًا ذا مغزى، غير أن هذه الصورة قد تداعت بنظر نيتشه، فهي ليست في الواقع إلا تعبيرا عن حاجة الإنسان لتجنب الفوضى فتهديد الفوضى الذي نشعر به هو ما حملنا على خلق هذه المعاني، فأصبحنا فنانين ميتافيزيقيين. ويرى نيتشه أن هناك في الفلسفة معاني أخرى، كما صنع هيغل وغيره من الفلاسفة، خلقت ما يسمى بالاغتراب الفلسفي، وما أدى إليه من اغتراب للخصائص الطبيعية للإنسان، وتمثلت دعوة نيتشه في استرداد هذه الخصائص بوصفها ملك الإنسان وإنتاجه.