اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
وطن الإنسان هو الأرض التي نشأ فيها وترعرع عليها، وارتبط مصيره بمصيرها، متخذاً منها مأوى يأوي إليه ومكاناً يعيش فيه، هذه الأرض بما تحويه من معالم وما تزخر به من خيرات وثروات يتبادل أهلها المغانم، ويتحملون المغارم نتيجة لما يجمع بينهم من الروابط الإنسانية والصلات العاطفية والروحية والثقافية باعتبار مسمى الوطن يشمل الدين واللغة والثقافة والتاريخ وكل ما يندرج تحت مظلة هذا المفهوم من المفاهيم التي تتمحور حول الانتماء نحو الوطن والولاء له حيث إن هاتين الفضيلتين وغيرهما من الفضائل المرتبطة بالوطن، وكل ما يرمز إليه ويدل عليه هذا الاسم، يجد فيها المواطن مصدراً لهويته واختباراً لوطنيته ومعياراً لمواطنته على النحو الذي يجعل اسمه يرتبط باسم الوطن رافعاً شعاره ومستظلاً بظلال رايته وقد قال الشاعر:
أحن إلى أرض الحجاز وحاجتي
خيام بنجد دونها الطرف يقصر
وما نظري من نحو نجدٍ بنافعي
أجل لا ولكني على ذاك أنظر
والوطنية ذات مفهوم يعلو على مفهوم المواطنة بوصفها عاطفة جياشة يحس بها المواطن نحو وطنه بحيث تفرض عليه التضحية بالنفس والنفيس في سبيل الوطن، وبذل الغالي والثمين من أجله، انطلاقاً من أن قيمة المواطن وكرامته لا تنفك عن قيمة الوطن وكرامته، وأن مصلحة الوطن مقدمة على غيرها من المصالح، إذ إن الوطنية تقتضي من كل مواطن أن يعمل ما بوسعه لضمان مصلحة الوطن والرفع من شأنه، مؤتمناً عليه، ومؤكداً صدق الانتماء إليه من خلال الدفاع عنه والوقوف في وجه كل مَنْ يحاول الإضرار به والنيل من حرمته والمساس بهويته، وبذل الجهد الجهيد لجعله في محل الصدارة بين الأمم وكما قال الشاعر:
ومن لم تكن أوطانه مفخراً له
فليس له في موطن المجد مفخر
ومَنْ كان في أوطانه حامياً لها
فذكراه مسك في الأنام وعنبر
وعلى الجانب الآخر فإن المواطنة هي الصيغة التي تنتظم بموجبها علاقة المواطن مع الدولة بما له من حقوق وعليه من واجبات بالشكل، الذي يتيح له الحصول على الهوية الوطنية ومشاركة الدولة في تحمل المسؤولية نحو تحقيق الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، علاوة على أن المواطنة تعني إيجاد المواطن الصالح الذي يؤدي دوره بفاعلية ضمن بيئة عادلة تحفظ له حقوقه المدنية والسياسية والجماعية التي لا يمكن التنازل عنها، ولا يتقادم عليها الزمن، وفي الوقت نفسه تحتم عليه أن يكون منتمياً إلى وطنه، مؤدياً واجباته كما ينبغي وعلى الوجه الذي ينبغي في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وغيرها. وقد قال الشاعر:
تحن الكرام لأوطانها
حنين الطيور لأوكارها
وتذكر فيها عهود الصبا
فتزداد شوقاً بتذكارها
والهوية تشتمل على سمات خاصة تميّز كل حالة عن غيرها من الحالات، بوصف الهوية تعبّر بوضوح عن حقيقة الشيء وماهيته ضمن مقاييس محددة، تتكون منها عناصر الهوية وصفاتها الجوهرية.
وتركز الهوية على الخصوصية الذاتية، وما هي المميزات والصفات التي يتميز بها فرد أو مجتمع عن غيره بصورة تضفي على هويته طابع القوة وسمة الفاعلية، بفضل تفعيل القواعد التي تتوفر عبرها خاصية المطابقة مع الذات والمفارقة مع الغير.
والهوية تمثل مجموعة من الخصائص والصفات التي تختلف من أمة إلى أخرى، ومن تكتل بشري إلى آخر بطريقة تجعل هذه الأمة أو التكتل حقيقة اجتماعية ذات عناصر يكمل بعضها بعضاً، وتتكون من الدين والأرض والتاريخ واللغة والموروث الثقافي والانتماء والحقوق والواجبات والسياسة والاقتصاد.
ونحن في هذا الوطن ننظر إلى هذه المفاهيم نظرة إجلال وإكبار بدءاً من المواطنة والهوية وصولاً إلى الوطنية التي نعتز ونفتخر بها، وانتهاء بالانتماءين الوطني والديني اللذين نقدسهما، وعلى ضوء هذا النهج القويم والسلوك السليم تعمل الدولة على التوفيق بين هذه المفاهيم وبين العقيدة الدينية والقيم الإنسانية في بيئة تراعي من خلالها صهر الوحدات الانتمائية الفرعية في بوتقة الانتماءين الشعبي والوطني على نحو يضبط الانتماءات الأدنى ضمن إطار الانتماء الأعلى الذي يمثل الوطن بعيداً عن التعصبات والتحزّبات التي تنحرف بالانتماء الوطني عن مساره الصحيح، وتجعل الوطن عرضة لتربص المتربصين ومكائد الكائدين واعتداءات المعتدين.
ومن الملاحظ في هذا الزمن الرديء وجود بعض أصحاب الأقلام المأجورة والعيون المكسورة والممارسات المحظورة الذين دأبوا على كشف سوءاتهم من وقت إلى آخر عبر مواقع التواصل الاجتماعي بشكل يسيء للوطن والمواطن، وهذه القلة القليلة تشكِّل طغمة من الغوغاء الذين إذا غابوا سروا، وإن حضروا ضروا منطبقاً عليهم وصف عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- لهذا النوع من الناس عندما رآهم في موقف شبهة حيث قال: لا مرحباً بهذه الوجيه الكريهة التي لا تُرى إلا في الشر.
وتوضيحاً لذلك فإن ثمة بعض الأشخاص المحسوبين على الوطن والمواطنين الذين يحرصون دائماً على تشويه المواقف واقتناص الفرص في الاتجاه السلبي لإعطاء صورة سلبية عن الوطن والدولة عن طريق تغريدات ساقطة وتسجيلات هابطة وذلك لسوء طبع يسيطر عليهم، ومرض في نفوسهم، وحسد متأصل فيهم إلى الحد الذي حجب عنهم الصواب، وجعلهم يتنكرون للدولة التي أكرمتهم وأحسنت إليهم ولسان المقال وواقع الحال يتجلى في قول أحد الحكماء: ما رفعت من قدر أحد فوق قدره إلا حط من قدري بقدر ما رفعت من قدره.
ومن يلقي نظرة فاحصة على هؤلاء الأشخاص ويتفحص كلماتهم يجدهم خليطاً من الشعوبيين والمتجنسين، ومن يدور في فلكهم من أصحاب الأهواء ودعاة الإغواء الذين غابت عنهم الحكمة وفقدوا احترام الكلمة إلى الدرجة التي جعلتهم ينهون عن الشيء ويقعون فيه بصورة يغلب عليها طابع المنطق الشعوبي البغيض الذي يقلل من شأن الآخرين، وينعتهم بنعوت ظالمة أقل ما يقال عن الذي يطلق هذه النعوت بأنه ذو عقل متخشب، يعيش في عصور غابرة.
وتنظيم الإخوان من التنظيمات والنظم المتآمرة على المملكة، ورغم أفول نجم هذا التنظيم إلا أنه لا يزال ثمة بعض المتأثرين بفكره في الداخل، ذلك الفكر الظلامي الذي يتخذ أصحابه من الدين مطية لتحقيق مآرب شخصية، وأهداف سياسية تحت غطاء أسلمة السياسة، أو ما يعرف بالإسلام السياسي، وخطورة هذا الفكر والتنظيم القائم عليه والمتبني له تكمن في أنه ينفذ على مراحل تبدأ من وضع السم في العسل والعمل الخفي الذي يراد به تشويه الدولة والإساءة إلى نظام الحكم عن طريق الترويج للشائعات وإثارة البلبلة والأفكار الهدامة بين المواطنين لزرع الفتنة والنيل من اللحمة الوطنية والتشكيك في الهوية ومبدأ المواطنة بأسلوب يخدم المؤامرات الخارجية من خلال تهيئة الداخل لتقبل ممارسات الطابور الخامس الدخيل والمؤامرات المدبرة بليل.
والمملكة انطلاقاً من حسن النية وسلامة الطوية وما تقتضيه الأخوة الدينية والمعاملة الإنسانية ولكونها تحتضن الحرمين الشريفين، وتحتل موقعاً قيادياً بالنسبة للمسلمين، فإنها تستضيف على أرضها كثيرا من الجاليات الإسلامية من دول شرق آسيا ودول شبه القارة الهندية وبعض الدول الأفريقية وهؤلاء القوم منهم مَنْ أتى زائراً أو وافداً ومنهم مَنْ أتى معتمراً أو حاجاً وانتهى به المطاف إلى الإقامة في المملكة وبالتحديد في مكة والمدينة، ومع مرور الأيام ولغ بعضهم فيما ولغ فيه المتآمرون وعبثت بهم الأيدي الخفية التي زينت لهم السير في ركب المتطاولين على المملكة وشعبها بما في ذلك التطاول على هوية بعض أقاليم المملكة ونسج الحجج الواهية والخرافات الفاسدة حول موروث تلك الأقاليم لإحلال موروثهم الدخيل محل الموروث الأصيل والدعوة إلى الشعوبية على حساب المواطنة والوطنية. وفي هذا الصدد لا بد من التأكيد على أفراد هذه الجاليات الذين أتوا إلى المملكة باختيارهم وتحت غطاء الدين أو هروباً من الاضطهاد الذي يعانونه أو يدعونه واستأوتهم المملكة ووطنتهم في كل من مكة والمدينة وجدة وغيرها، ومع الزمن استفحل أمر هذه الجاليات وأصبحوا يشكلون خطراً على أمن الوطن والمواطنين خاصة بعدما ثبت تورط بعض أفراد هذه الجاليات في عمليات إرهابية، وارتباط البعض الآخر بقطر وتركيا وإيران وغيرهما من الجهات المتآمرة على المملكة، علاوة على ما يرتكبه هؤلاء من جرائم خطيرة ويقترفونه من اقترافات مسيئة ومشينة.
ويتضح مما سبق أن هؤلاء المرتزقة اختاروا طريق العمالة والخيانة عندما جعلوا من تركيا وقطر وإيران والتنظيمات الإخوانية والإرهابية قبلة لهم، مرتمين في أحضان أعداء المملكة على نحو جعل منهم طابوراً خامساً يعمل لمصلحة أعداء المملكة وهي الدولة التي ينتمي إليها بعضهم، وتستضيف بعضهم الآخر، وهذه الممارسات الخيانية ما هي إلا تتويج لتصرفات منكرة وممارسات قذرة يمارسونها على الأرض وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تطاولوا على رموز المملكة والخطط التي تتبناها الدولة بهدف إثارة الرأي العام ضد الدولة والنيل من إنجازاتها ومكتسباتها.
كما استمرأوا محاولة الإخلال بأمن الوطن، وجعلوا من هذا الأمر هدفاً ينشدونه لزرع الفتنة بين المواطنين وتأليبهم على البلاد بالإضافة إلى التقليل من شأن المكون الوطني والتجني على الوطن والمواطنين من خلال الافتراءات وكيل الاتهامات الباطلة، بما في ذلك الإساءة إلى الهوية الوطنية والموروث الوطني وتبنيّ موروثات وافدة مع السطو على الأراضي وإقامة المباني عليها.
والمتتبع لأنشطتهم يتكشف له أن وراء الأكمة ما وراءها من الأجندة السرية والأهداف المبيتة التي تدار من قبل جهات خارجية لها مطالب مشبوهة ورغائب شريرة، تريد الحصول عليها على المدى البعيد.
والمرض المعروف علاجه لا يعالج بالمسكنات والمهدئات التي تؤدي إلى استفحاله وزيادة متاعب الذي يعالجه، بل لابد من علاجه العلاج الناجع لاستئصاله والقضاء عليه، كما أن المشكلة القابلة للحل بأقل التكاليف إذا تُركت وتقادم عليها الزمن تولد عنها مشكلات ونجم عنها مضاعفات وأصبح حلها أكثر صعوبة ومثل هذه المعضلة لا تحل بالأقوال المجردة عن الأفعال وإنما تحل بالطريقة التي تحسمها وتقطع دابرها.
وترتيباً على ذلك فإن القضايا الأمنية لا تعالج بالمناكفات والمماحكات التي تعطي الطرف الخائن لوطنه وزناً وقيمة، والشريف لا يسمح لنفسه بالنزول إلى منزلة الدنيء وعندما تخاطب خائناً لا يباح لك تعميم عبارات التخوين وإطلاقها كيفما اتفق، كما أنه ليس من حق أحد أن يختزل الوطنية في تغريدة عبر مواقع التواصل أو يحتكرها لنفسه دون غيره.
والجهات الأمنية تعمل بتوجيهات القيادة السياسية ذات النفس الطويل وتعرف هذه الجهات ما هو مطلوب منها تجاه الطابور الخامس الذي باع دينه ووطنه وخان أمانته، مدركة بأن الدين والوطن والوطنية والمواطنة والهوية لا تقبل أنصاف الحلول ولا مساومة عليها وأن الانتماءات الدينية والوطنية والقومية أصبحت على المحك بالشكل الذي يحتم على الجميع عدم الإخلال بشروط المواطنة.