الهادي التليلي
ذات شتاء بارد إلى حد القسوة وفي مدينة تاتوف المقدونية الجميلة استطاع مهرجان ديدياي نعيمات أن يجمع شعراء من كل أنحاء العالم. المهرجان يأتي بعد سنوات قليلة من حرب البلقان التي حصدت آلاف آلاف الأرواح. المهرجان الشعري كان الجرعة الترفيهية الوحيدة في المكان للحزن الشديد الذي خلفته الحرب غير المأسوف عليها.. في ذلك الشتاء القاسي الحزين كان الشعر نافذة دافئة تعيد المدينة القابعة في الجزء المسلم من جمهورية مقدونية المنقسمة عرقيًا إلى العالم بعد عزلة الحرب.
في إحدى زوايا الفندق المنتصب كنقطة ضوء في عتمة عميقة كان مجموعة من الشعراء المشاركين الذين وصلوا قبل بدء المهرجان بيوم واحد للتعارف وتبادل التجارب. الدائرة لم تكن كبيرة العدد حيث كانت شاعرة المارتينيك الأولى نيكول، كنت قد تعرفت عليها في مهرجان الشعر، علي بن غذاهم الدولي التونسي ورفيقي في الوفد التونسي عبد الكريم الخالقي. والشاعر المقدوني مدير المهرجان شعيب أمرالله، إضافة إلى الشاعر الإيطالي ماريو بلليدزي، وعلى يساري جلست شاعرة ألمانية من أصول ألبانية مليئة بالحياة والحيوية ساعتها هي سيلك ليريا بلمباخ. الجميع طلب من النادل شيئًا مختلفًا إلا أنا وسيلك طلبنا قهوة نصف حارة ونصف مثلجة. في الحقيقة طلبت هذا الطلب لجهلي باللغة الألبانية، فبمجرد أن نطقت سيلك بطلبها قلت بالإشارة ما يعني نفسه. سيلك سعدت أنني عربي، وبدأت تقصف البرد المحيط بحوار دافئ حوار أقرب إلى الفنتازيا وهي تقص لي مغامراتها في البلقان وهي تتبع زوجها ووالد ابنها من جبل إلى جبل ومن مكان إلى مكان. المرأة الرومنسية الجميلة سوت ككتال معنى أشبه بالقهوة المثلجة زادها دخان السجائر التي تنفثها ويزداد احتلاله للفضاء كلما تعمقت في السرد إلى أن وصلت لحظة موت زوجها في إحدى المعارك وتدخل عائلاتها لعودتها لألمانيا.
سيلك التي كانت قبل الحرب تعمل مترجمة فورية في إحدى المنظمات الدولية والتي تنتمي لعائلة بورجوازية الوالد دكتور والأم كذلك تفر من عائلتها والعالم وراء تجربة حب خرافية. المهم عائلتها التي أعادتها نفرتها بسبب ابنها ولكن لحسن حظها أنها تتقن سبع لغات إتقانًا تامًا ومنها الفرنسية التي كانت وسيلة تواصلنا، فعملت بإحدى الشركات الخاصة للمؤتمرات إلى أن تفرغت للشعر بتبنيها من دار نشر احترافية، ومن ثم ذاع صيتها وصارت نجمة ألمانيا في الشعر وممثلتها في أهم المحافل.
الشاعرة سيلك بلمباخ ممثلة ألمانيا آنذاك تطوعت لتكون المترجمة الفورية للمهرجان في اللغات التي تتقنها، وقصائدها التي تكتب بسبع لغات كانت خير ملهم لي بإصدار إحدى مجموعاتي الشعرية بأربع لغات..
كان الجو خرافيًا أنساني بهذلة السفر والنزول في مطار سكوبيا الذي يقطر عنصرية آنذاك.. سيلك وجدت من يسمعها دون مقاطعة فاستمرت تسرد وأحيانًا تطرب وغالبًا ما تذرف الدموع، وعندما سألتها بماذا خرجت من تجربة حرب البلقان قالت ابنتي وخسارة زوجي ومرض السرطان -عفانا وعفاكم الله- زاد احترامي لهذه المرأة التي تتحدث بعفوية خارقة لقوانين الكون البشري، وعندما سألتها والشعر بماذا خرجت قالت كل ما كتبته أثناء الحرب ضاع مني في مكان لست أذكره ولكن ما تخمر بعدها ستسمعه في المهرجان وفي السهرة التي سنقيمها في دولة ألبانيا المجاورة وتحديدًا في عاصمتها في ضيافة وزير ثقافتها.. سيلك بلمباخ وهي تقرأ الشعر في المهرجان بلغات متعددة للقصيدة الواحدة تحملك إلى عالمها القصي وتجربتها المرة التي بنت منها شاعرة كونية تتحدى حدود اللغة والمكان والزمان والعرق، شاعرة مسلمة لكنها تكتب عن جمال الكنيسة ونمنماتها وزخرفها، تعشق القرآن وتبكي عندما رأته مكتوبًا بماء الذهب في مكتبة بابا طاهر مفتي الديار البلقانية، حضورها في المهرجان كان لافتًا وشعرها ساحراً ولكنها تعشق المغامرة والغرابة.. تركتها في البلقان وتواصلنا عندما عاد كل منا لبلده وبقيت صداقة وتبادل قصائد إلى أن جاء خبرها صادمًا حين أعلمني الشاعر الإيطالي ماريو بلليدزي أن الشاعرة سيلك بلمباخ رحلت بها كورونا.. قلت لحال نفسي الشعراء يعيشون بقصائدهم وسيلك ليريا بلمباخ التي حصدت عديد الجوائز العالمية وكانت مرشحة أكثر من مرة لنوبل للآداب تركت إبنًا قد يحمل عنها المشعل ويثأر لأمه من كورونا.